أعمل بجد وغيري يترقى
يتذكر سنوات من الصدق والإخلاص في العمل، ويبدي ندمه الممزوج بالاستغراب: "كنت حريصا على ألا أتحدث عن نفسي كثيرا، أن أعمل وأنا صامت، ألا استعرض قدراتي أمام زملائي، ولكن في النهاية.. كانت تذهب الترقيات لمن لا يستحقها!" يمكننا أن نتناول هذه القضية بأكثر من زاوية ومنها مشكلة الجمع بين التواضع ـــ والخلق الرفيع والمهنية العالية والمظهر الصادق ــــ مع قدرتنا على أن نجعل الآخرين يعترفون بإمكاناتنا. ترتبط هذه المشكلة بكيفية تعريفنا للقيم الذاتية وتطبيقنا لها في محيط يعج بالنقائض.
تبدأ الحلول بوضع حد فاصل بين الخجل والشجاعة المهنية، وبين الأدب المبالغ فيه والجرأة على الظهور في الوقت الملائم، وبين التباهي والتعريف المتزن بقدرات الشخص وإمكاناته. نحن دائما ما نجرب رسم هذا الحد الفاصل حسب تصوراتنا وتجاربنا ولكن معظمنا يقف موقف المتحفظ ويفقد الكثير من الفرص لأنه وبكل بساطة لا ينجح في رسم هذا الخط بطريقة واقعية تكون في الوقت نفسه متوافقة مع مبادئه الأخلاقية وتعود عليه بالمردود الذي يستحقه. بالطبع هناك من يسلك الطريق الآخر ويبالغ في الاستعراض والكذب، وهذا يمثل الوجه الآخر من المشكلة.
يطلق العلماء على هذه المشكلة معضلة المتبجح أو المتباهي Braggart’s Delimma، وهي عبارة عن إشكالية يحذر منها الشخص ويغير بسببها من سلوكيات ظهوره أمام الآخرين. على الجانب الآخر، هناك من يبالغ في الاستعراض والتباهي ويصبح في الطرف الآخر من المشكلة، ليبدأ في إطلاق الإشارات السلبية التي يفسرها الآخرون بالأنانية و"الهياط" والخداع، مما يفقد ثقتهم به وبإمكاناته.
التطرف في هذه المسائل ظالم للشخص ولمن حوله، سواء كان تطرفا باتجاه الصمت والتواضع أو باتجاه الاستعراض والتباهي. حيازة بعض مهارات الذكاء الاجتماعي مع الثقافة الأخلاقية المتجددة والقوية كفيل بوضع الشخص في نقطة جيدة للانطلاق، بلا ضرر ولا ضرار.
لإدارة هذه المعضلة أرفق هنا خمس نقاط بسيطة يستخدمها الدكتور كريستيان جاريت ــــ مؤلف كتب ومدون في علم النفس ـــ للتعامل مع مشكلة التباهي، التي تضيع الكثير من الفرص خصوصا على الشباب الذين ينخرطون في بيئات عمل جديدة ويعتادون الحذر المبالغ فيه فلا تظهر قدراتهم ولا تتاح لهم الفرص التي تفجر إمكاناتهم، وذلك لأنهم بكل بساطة مارسوا الخجل في موقف كان يتطلب الجرأة ظنا منهم أن هذا يجعلهم أقرب إلى الشرف والنزاهة.
النقطة الأولى: لا تضخم ذاتك دون مقدمات، ولا تحاول استعراض قدراتك دون أن يطلب منك أحد ذلك. هناك فارق كبير كما يشير الدكتور جاريت بين الادعاء الخالص الذي يفتقد إلى المسبب ـــ حتى لو كنت قادرا على إثباته ـــ وبين تقديم إجابة صادقة عندما يتم سؤالك. ولا ننسى أن بعض المواقف ــــ مثل المقابلات الشخصية وجلسات عرض مقترحات الأعمال ــــ تتطلب الحديث المباشر عن القدرات والإنجازات، وهذا ما يتوقعه المستمعون حينها.
النقطة الثانية تختص بالمقارنة الذاتية، أي ألا تقارن نفسك بمن ينافسك بل قارنها بنفسك في فترات أو أماكن أخرى. هذا النوع من المقارنة الإيجابية يتجاوز إشكالية التصورات الخاطئة التي تصل إلى البعض عندما يشعرون بأنك تحاول إقصاء زملائك أو منافسيك بطريقة غير نزيهة. تثبت الأبحاث أن تعابير التفوق الذاتي "أنا أفضل من غيري" تصنع تصورات سلبية، بينما تعابير التحسن الذاتي تصنع تصورات إيجابية. وهذا يحصل كثيرا عند الحديث عن المنافسين، من يظهر احترامه لهم ويمدح بضاعتهم بلطف ثم يظهر مجهوداته في تحسين بضاعته، يحصل على نتائج أفضل ممن ينتقد بضائع أو أشخاص منافسيه.
استعمال طرف وسيط أو شخص مساعد يقوم بالحديث عن قدراتك نيابة عنك سيحسن من نتائج مجهوداتك. هذا يبين أهمية كسب ثقة الزملاء قبل المديرين فالسمعة الطيبة تنتشر وتسوق لنفسها بينما يفقد من يكسب العداوات هذا النوع من المساعدات. أهمية الأطراف المساعدة التي تعبر عن قدراتنا في مختلف المواقف جوهرية جدا، فالأبحاث تثبت أننا نصدق عبارات المديح الصادرة عن الغير أكثر من تصديقنا عبارات المديح التي يطلقها الشخص عن نفسه.
يضيف الدكتور جاريت أهمية فهمنا للفئة التي نتعامل معها "المديرين أو الذين سيحددون كيفية الاستفادة من قدراتنا". تؤثر أساليب الترويج الذاتي في هذه الفئات بطرق مختلفة، حسب مقدار ثقافتها وأسلوب تركيزها حال عملية التقييم والأجواء المصاحبة لذلك. إذا عرفنا مثلا أن المدير ليس مستمعا جيدا وربما إجباره على الاستماع سيعود بنتيجة سلبية فالأفضل أن نتجنب ذلك ونبحث عن وسيلة أخرى للحصول على إعجابه.
النقطة الأخيرة التي يتحدث عنها الدكتور جاريت هي نفسها التي حذرني منها سابقا مشرفي على رسالة الدكتوراه، والتي تتعلق بالمبالغة في التقليل من التوقعات الإيجابية ظنا مني بأنه شكل من أشكال التواضع أو التحفظ المفيد. تشير الأبحاث إلى أن المبالغة في التواضع والتقليل من شأن الذات وقدراتها يصنع التصورات السلبية لدى الآخرين. ينبغى ألا نتفاجأ عندما يقلل البعض من قدراتنا لأننا قللنا منها في البداية! وبمثل هذه النقاط يرسم الحد الفاصل الذي نحدد به كيفية ظهورنا أمام الآخرين، حتى لا تفوتنا الفرص ولا نندم عليها.