رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الشبكة .. لعبة الجميع فيها فائزون .. ولكن؟

عندما تكون أمامنا قضية ما، ومجموعة من أصحاب العلاقة الذين يتطلعون إلى مكاسب لهم فيها، فإن كثيرين، ومنهم خبراء في علم الرياضيات، يطلقون على ذلك وصف "لعبة". ولعل السبب وراء ذلك أن هذا الأمر يحاكي اللاعبين الذين يمارسون الألعاب الرياضية، وربما ألعاب اللهو، ويتطلعون إلى مكاسب فيها.
وفي النظرة العلمية إلى مبدأ اللعبة، يتم تقسيم الألعاب تبعا لطبيعة نتائجها. هناك ألعاب فيها رابحون وفيها خاسرون؛ وهناك ألعاب الكل فيها خاسرون؛ وألعاب الكل فيها رابحون؛ وبالطبع هناك أيضا ألعاب تعطي لأصحاب العلاقة نتائج هي مزيج مختلف من نتائج الربح والخسارة. ولا شك أن لكل منا فيما يراه من حوله، وفيما يجده في تجربته الشخصية، أمثلة مختلفة لمثل هذه الألعاب.
الألعاب التي ترضي في نتائجها الجميع هي تلك التي يكسب فيها الجميع. ولعل بين أهم الأمثلة على هذه الألعاب في حياتنا، تلك الألعاب التي أفرزتها التقنيات التي تقدم الخدمات، ومكّنت الجميع من الشراكة فيها، كل تبعا لما يطلبه منها. وفي هذا الإطار يبرز مبدأ "الشبكات" الممكّن لهذه الشراكة، والمطبق في شتى مجالات الحياة، موفرا الخدمات للجميع في هذه المجالات. وهناك في حياتنا شبكات في مجالات عدة تضم: المياه، والكهرباء، والنقل، والمعلومات، وغيرها.
شبكات المياه تتلقى المياه من مصادرها وتنقلها، عبر المسافات في "أنابيب إلى مواقع تجمع المستفيدين، ثم توزيعها لتصل إلى كل مستخدم تبعا لطلبه واحتياجاته. ويدفع المستخدم بالمقابل حصة من التكاليف الكلية تتناسب مع طلبه وما يصل إليه. وبوجود عدد كبير من المستخدمين، يستفيدون من الخدمة، تكون التكاليف الكلية شراكة بينهم، كما كانت المياه المنقولة من مصادرها شراكة بينهم، وكما كانت أنابيب الشبكة، شراكة بينهم أيضا.
الشراكة هنا ثلاثية الأبعاد: شراكة في السلعة، أي المياه في الحالة المطروحة؛ وشراكة في إمكانات الشبكة، وهي الأنابيب في شبكات المياه؛ ثم شراكة في التكاليف الكلية، وذلك بقدر الاستهلاك. هذه الشراكات الثلاث تجعل اللعبة "مربحة" للجميع. المستفيدون يتلقون المياه التي يحتاجون إليها بتكاليف محدودة بحاجتهم؛ وأصحاب الشبكة والمسؤولون عن تنقية المياه يجمعون النفقات من الجميع، ربما بمستوى ربحية معقول في حال انتمائهم إلى القطاع الخاص؛ ومصنعو إمكانات الشبكة يبيعون هذه الإمكانات من أجل بنائها وصيانتها، والعمل على تجديدها.
"الشبكة"، في إطار ما سبق، هي الممكّن الأساس للعبة الشراكات المربحة. وينطبق ما ذكرناه، ليس فقط على شبكات المياه، بل على شبكات الكهرباء، حيث الأنابيب هي الأسلاك، والسلعة هي الطاقة الكهربائية. وينطبق أيضا على شبكات النقل، حيث الأسلاك هي الطرقات، والسلعة المنقولة هي وسائل النقل والمواد التي تحملها، والبشر المتنقلون والمسافرون. كما ينطبق كذلك على شبكات المعلومات، حيث الطرق هي قنوات الاتصال السلكية واللاسلكية، والسلعة المنقولة هي المعلومات بأشكالها المختلفة، الصوت والصورة والنصوص.
وبوجود الشبكات المختلفة الممكّنة للعبة الشراكة، قدم الإنسان مبتكرات تتمثل في خدمات مضافة، ترتبط بهذه الشبكات، من أجل إتاحة الشراكة فيها. في شبكات المياه على سبيل المثال، يجري ربط محطات تحلية مياه البحر بشبكات المياه، وبذلك يتمكن مستخدمو هذه الشبكات من الشراكة في مياه البحر المحلاة. ولعل أبرز الخدمات المضافة جاءت من خلال شبكات المعلومات، وبالذات عبر "شبكة الشبكات" على مستوى العالم المعروفة "بالإنترنت".
عبر الإنترنت، ظهرت خدمات "المواقع" Web، في نحو مطلع التسعينيات من القرن الميلادي الماضي. ومن تطور هذه الخدمات، برزت خدمات التعاملات الإلكترونية الحكومية، وخدمات التجارة الإلكترونية، والأعمال الإلكترونية المختلفة. وبعيد مطلع الألفية الثالثة، انطلقت الشبكات الاجتماعية، حيث بدأت خدمات "فيسبوك" Facebook عام 2004، وجاءت خدمات "تويتر" Twitter عام 2006، إضافة إلى خدمات مختلفة أخرى.
ولم يقتصر الأمر على ما سبق، بل اقترنت بالإنترنت أيضا، نحو عام 2008، خدمات ما يعرف "بالحوسبة السحابية"Cloud Computing. تتيح هذه الخدمات لمستخدمي الإنترنت، تخزين المعلومات ومعالجتها، واستخدام البرامج الحاسوبية المختلفة، بل وتطوير مثل هذه البرامج للاستخدامات الخاصة في مراكز حاسوبية خاصة وبعيدة عن المستخدمين، وكأنها موجودة على "سحابة" مجهولة في الفضاء.
تتيح "الحوسبة السحابية" لمستخدميها الاعتماد، في متطلباتهم الحاسوبية، على ما لديها من إمكانات متاحة عبر الإنترنت، حيث يدفعون ثمن ما يستخدمون بدل أن يمتلكوا إمكانات حاسوبية خاصة بهم، ويكون عليهم عبء ثمنها ومسؤولية إدارتها. توفر هذه الحوسبة لهم حاجتهم من الخدمات، في كل الأوقات، ومن أي موقع هم فيه حول العالم. ويناسب هذا الأمر الخدمات التي يحتاج إليها "الأفراد"، كما يناسب أيضا الخدمات التي تحتاج إليها "المؤسسات الصغيرة والمتوسطة". أما المؤسسات الكبرى، فقد تختار أن يكون لها إمكانات حاسوبية خاصة بها، وليس مشتركة مع الآخرين.
لا شك أن المستفيدين المشاركين في لعبة خدمات مختلف أنواع الشبكات، وفي لعبة الخدمات المضافة إليها، يشعرون جميعا بأنهم رابحون، لأنهم يحصلون على ما يطلبون من الخدمات في مقابل تكاليف جعلتها الشراكة محدودة، وفي بعض الأحيان مدفوعة من قبل الآخرين، من خلال المواد الإعلانية.
وإذا كان المستفيدون راضين، فإن علينا التساؤل عن الأثر الشامل في المجتمع. مصلحة المجتمع هي دائما قبل مصلحة الأفراد، وقبل مصلحة المجموعات. في شبكات المياه والطاقة، يحتاج المجتمع إلى الاقتصاد في سلعها المشتركة لأنها تنهل من موارد طبيعية مهمة. وفي شبكات النقل، يحتاج المجتمع أيضا إلى الاقتصاد في التنقل للحد من استهلاك الطاقة، ومن الازدحام والتلوث. وفي شبكات المعلومات، يحتاج المجتمع إلى السلام والوئام ولغة تواصل حسنة على الشبكات الاجتماعية، منعا للآثار غير الحميدة التي قد يفرزها تعدد الآراء والتوجهات في قضايا العالم المختلفة.
إن تقنيات الشبكات المختلفة، وما توفره من خدمات يستفيد منها الجميع، بحاجة إلى "عقد اجتماعي إنساني" يضع ضوابط للاستخدام. مطلوب في هذا العقد عدم الإسراف في المياه، أو في الطاقة، أو في النشاطات التي تؤدي إلى تلوث البيئة، أو في هدر الوقت وتبادل المعلومات والتحديات غير الضرورية عبر الإنترنت. مطلوب في هذا العقد تبني سلوك إنساني حميد، ولغة تواصل مشتركة تجمع ولا تفرق، لغة تستند إلى قوله تعالى في سورة المائدة "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي