خصخصة الخدمات الصحية ضرورة أم ترف؟
هل خصخصة الخدمات الصحية أساس في إصلاح الأنظمة الصحية؟ وهل يوجد نظام صحي متطور ليس للخصخصة دور فيه؟
هناك سوء فهم لمفهوم خصخصة الخدمات الصحية. فعديد من الكتاب يتحدث عن الخصخصة دون وعي لحقيقة مكنونات الخصخصة وصورها. فخصخصة الخدمات الصحية لها أنواع متعددة، ولعلي أبسط الحديث حول أنواعها وتعريفاتها في مقالات لاحقة. وقد سبق أن بسطت الحديث حول هذا الموضوع في مؤتمر وزارة الصحة قبل بضعة أشهر، وفي ورشة علمية أقامتها منظمة الصحة العالمية قبل شهرين تقريبا. كما أن منظمة الصحة العالمية ستقيم ورشة عمل أخرى بعد شهر من الآن حول الموضوع نفسه، ولكن من زاوية دور القطاع الصحي الخاص في تقديم الخدمات الصحية. فالقطاع الصحي الخاص أصبح شريكا حقيقيا ليس في تقديم الرعاية الصحية فقط، بل في رفع مستوى أداء النظام الصحي بشكل عام.
لكن ما أحاول التركيز عليه في هذا المقال أنه لا يوجد نظام صحي دون أن يكون للخصخصة دور فيها، لكن دور الخصخصة قد يختلف من دولة لأخرى، كما أن مفهوم الخصخصة يختلف من خصخصة شاملة (وليست كلية) وبين خصخصة محدودة. فمثلا للخصخصة دور في تقديم الرعاية الصحية. لدى النظام الصحي البريطاني والألماني والسويسري والهولندي والفرنسي والياباني والكوري والسنغافوري ومعظم دول أوروبا الغربية.
لذا فالسؤال عن الخصخصة ومدى فائدتها أو عدم فائدتها سؤال غير دقيق ويحتاج إلى تفصيل لأن الإجابة بالنفي أو الإيجاب قد تحكي جزءا من الحقيقة ولكن ليست الحقيقة كاملة.
لكن ما يعنينا على المستوى المحلي أن وزارة الصحة بحاجة إلى خصخصة بعض خدماتها لأنها حاليا تقوم بكل الخدمات الأساسية والفرعية بما في ذلك الأدوار الرقابية والتنظيمية والإشرافية، كما تقدم الرعاية الصحية بكل مستوياتها (الأولية والمتوسطة والثانوية والتأهيلية) إلى غيرها من الوظائف المتعددة والمتشعبة، خصوصا أن المملكة العربية السعودية دولة مترامية الأطراف. وعلى حد علمي أنه لا توجد وزارة صحة في العالم تقدم ما تقدمه وزارة الصحة لدينا سواء على مستوى الحجم أو المهام. لذا فلا غرابة أن يكون الحمل ثقيلا لكل وزير صحة لأن الأولوية غير واضحة ومختلفة. لذا فإن خصخصة بعض خدمات وزارة الصحة لم تعد خيارا وإنما أصبحت ضرورة يمليها واقع الخدمات الصحية وتوجهات الأنظمة الصحية الحديثة. لذا لا بد لوزارة الصحة أن تفكر في خصخصة بعض خدماتها الصحية.
لكن السؤال الأهم: ما الخدمات التي ينبغي خصخصتها؟ ولعلي بدل أن أسرد هذه الخدمات، أقصر الحديث حول أحد شروط نجاح خصخصة الخدمات الصحية. وهو أن تكون الخدمات المراد خصخصتها قابلة للقياس وإيجاد محفزات حقيقية لنجاح تلك الخصخصة. ولعله كما قيل "بالمثال يتضح المقال". فمثلا خصخصت المملكة المتحدة مراكز الرعاية الأولية. وتم اختبار خصخصة الخدمات الصحية لمراكز الرعاية الأولية بسبب أنها خدمات من السهل قياس مخرجاتها ومن السهل مراقبتها ومتابعتها. فلدى كل مركز طب الأسرة والمجتمع حوافز لتقديم أفضل الخدمات لأن الميزانية السنوية لكل مركز يتم اعتماده وفقا لعدد الشريحة السكانية المسجلة لديه. بمعنى أنه كلما زادت الشريحة السكانية المسجلة لدى كل مركز صحي، زاد دخل ذاك المركز. كما أن لدى المقيمين في كل حي أو منطقة حرية اختيار المركز الصحي الذي سيسجلون معه. كما أنه من حق سكان كل حي تغيير المركز الصحي في حالة عدم رضاهم عن مستوى الخدمة المقدمة من المركز، لكن ليس من حقهم التسجيل في أكثر من مركز في الوقت نفسه، من أجل تجنب ازدواجية دفع التكلفة المقدمة لكل مواطن أو مقيم.
لكن من أجل تحقيق زيادة في مستوى الجودة المقدمة من قبل مراكز الرعاية الأولية، فقد تم تعديل النظام عام 2004 بحيث إنه أصبح من حق كل مركز صحي أخذ Bonus في حالة أسهم المركز في رفع مستوى الحالة الصحية للشريحة السكانية التي يغطيها. فمثلا إذا أسهم المركز في خفض مستوى السكر في الدم أكثر من 400 إلى حدود 90 على 120 فإن المركز يأخذ زيادة مالية Bonus لهذه المساهمة الإيجابية. لذا أصبح عديد من مراكز الرعاية الأولية في بريطانيا تتواصل مباشرة مع الشريحة السكانية التي تجاوزت 40 من أجل عمل تحليل الضغط والسكر ومستوى الكوليسترول بشكل دوري. ففي إحدى الدراسات العلمية على انعكاس المحفزات المالية في التحكم في مستويات الضغط والسكر والكوليسترول أوضحت الدراسة أن المحفزات المالية أسهمت بشكل كبير، خصوصا أول السنوات في التحكم في مستويات الضغط والسكر والكوليسترول.
لذا فالخصخصة الذكية ليست فقط تسهم في تقديم الرعاية الصحية، وإنما في تحسين مستوى الخدمة ورفع كفاءات النظام الصحي بشكل عام إذا أحسن تطبيقها.