رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


إذا انعتق الفكر فعيدكم أبهى

كل عام وأنتم بخير. يأتي هذا المقال مع عيد الفطر المبارك أعاده الله عليكم باليمن والبركات والأمن والأمان، وأسال الله أن يرفع عن أمتنا العربية والإسلامية ما حل بها من فرقه واختلاف تعمق حتى تحول إلى أزمة وسلاح.
بالتأمل في أوضاع الأمة وما حل بها أستذكر مقالا لي قبل عدة سنوات حذرت فيه من جيل الدم، وأن يحل هذا الجيل بالأمة، واليوم سأعيد هنا بعضا من تلك العبارات التي سطرتها في ذلك الزمان وقبل أن تحل بنا كوارث الثورات العربية وما خلفته من أزمة، على أن الثورات ما كانت سوى مظاهر من الانحطاط والانغلاق الذي أصاب الأمة وجاءت كنتيجة ولم تكن مسؤولة عما نتج عنها بقدر ما كان المسار الذي أجبرت الأمة على المسير فيه هو السبب. فما هو جيل الدم الذي تحدثت عنه من قبل؟ إنه جيل عنيف صنعته وحوش بني إسرائيل والاستعمار من قبلها، صنعوه بوحشيتهم وصواريخهم، جيل نشأ عندما أغلق بعض الساسة كل سبل الحوار العاقل وغلفوا العلم بالسياسة، جيل تعلّم أن البقاء بين الوحوش يتطلب الوحشية، فهو جيل لا يؤمن بشيء، لا يعرف القيم الدينية ولا الأعراف الدولية، لا يؤمن بعقيدة ولا يفهم الحلول الدبلوماسية، جيل لم يتعلم على أيدي العلماء ولا يفهم لغة الإفتاء، جيل لم يدرس أخلاق الحرب ولا يعرف قراءة كتب الفلسفة، جيل دُمرت مدارسه وقتل مدرسوه أمام عينيه. جيل رضع الحليب مخلوطا بدم أمه الحاقدة على كل الإنسانية التي تركتها تنزف هي وأبناؤها محاصرة لا تجد رقعة أرض آمنة أو قطعة خبز نظيفة لم تختلط بدماء الآباء وأشلاء الأبناء.
لقد حذرت زمنا من انغلاق المسارات أمام شباب الأمة، مع كل عالم وفقيه يموت، مع كل فيلسوف يحرق كتابه ويصرف الناس عن بابه ويمنع من الإعلام والخطابة، مع كل داعية سلام ينظر إليه بريبة ويوصم بكل شائنة. لقد انغلقت أمام الشعوب العربية والإسلامية الطرق مع الانهيار الذي أصابها في معاقل علمها، ثم لم تستطع أن تجد لها طريقا إلى النور من بين الأنفاق، حتى عاش جيل كامل من الأمة وهو لا يعرف الضوء الذي يصدر من كتاب ينير حتى آخر النفق. انعزلت الأمة عندما انعزل علماؤها وفلاسفتها، ولم نستطع أن نجد لوجودنا بين الأمم تفسيرا منطقيا سوى أننا مسلمون، وفرضت علينا التجزئة والتقسيم والإقليمية ومن ثم الحماية والوصاية الأجنبية.
لقد فشلنا أكثر من مرة في بناء فلسفة مشتركة لحل مشكلاتنا كأمة واحدة مسلمة.
عندما نجحت الأمة في فتح طريق حضاري للنهضة تمثل في تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945، وما نتج عنها من الاعتراف المتبادل بين الدول العربية بالهوية المشتركة والتعددية الفكرية، وهي الخطوة التي افتقدتها الأمة منذ قرون، كان الحوار حينها كفيلا بتصحيح المسار، كانت الأمة أمام فرصة سانحة وكانت قادرة على العودة وقبول وجود الآخر المختلف، لكن سرعان ما سعت القوى التي هيمنت على السلطة حينها لفرض فكرها الذي تجلى في صراع سياسي مرير وهيمنة على العلم وأصبحت السياسة مصدرا للعلم ومسيطرة عليه فلا يعد الرجل عالما ولا صاحب علم إذا لم يتوافق مع أهل الحزب وسياسة أهله ونظرتهم للحياة. حتى الاقتصاد لا يعد اقتصادا إذا خالف هواهم، ولم يعد الرأي رأيا إذا لم يكن كما يشاءون. وهذا كله مكّن القوى السياسية التي جثمت على الأمة من محو واستبعاد كل ما خالفها من علوم ومعارف ومناهج ومارست كبتا للحريات الفكرية وتشكيكا واسعا في المبادرات العقلية الرصينة. وبعد كل تلك الرحلة المؤلمة، فقد العلماء مكانهم بين الشباب، ولم يعد للعلم معنى أو قيمة، ونزع العلم انتزاعا لكن بالعلماء الذي ماتوا كمدا أو قتلوا أو انتهت صلاحيتهم الفكرية تماما. ولم تستطع الأمة منذ عقود أن تصنع فريقا من العلماء الأفذاذ القادرين على إعادة النور للأبصار، ولم يعد لدينا سوى حلول سياسية مهترئة ومعالجات اقتصادية غير ذات معنى ومهدئات يقدمها مستشار هنا أو هناك لعل وعسى، وانغلق النفق مرة أخرى.
لقد حل جيل الدم الذي حذرنا منه مرارا، ولا حل قريبا ـــ في اعتقادي ـــ إلا إذا انعتق الفكر وظهر المفكرون من جديد، إلا إذا صارت السياسة تبعا للاقتصاد وليس الاقتصاد تبعا للسياسة، إلا إذا تحولت الجامعات منارة للفكر الحر ودارت رحى النقاش والحوار بلا تخوين ولا تجهيل، إلا إذا وحدت الأمة منهجها لربط ماضيها بحاضرها ونفضت عنها غبار الأحزاب وتركت العلم طائرا حرا يغرد على كل شجرة. عندها فقط سيكون عيدكم أبهى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي