هل كل ما تتمناه أمريكا تدركه؟
يتصور كثيرون في الشرق الأوسط، أن ما تريده أمريكا تفعله. أصدقاؤها في المنطقة وضعوا كل بيضهم في سلتها؛ إيمانا منهم بأنها الدولة التي لا حدود لسطوتها وقوتها العسكرية والاقتصادية وبإمكانها فعل ما تريد.
والموقف أو ربما الإيمان بأن أمريكا دولة جبارة تفعل ما تريد ولا تتخلى عن أصدقائها ومبادئها عززه انهيار القطب المناوئ لها – الاتحاد السوفيتي السابق – ودخول العالم مرحلة القطب الواحد الذي هيمنت عليه أمريكا.
بيد أن مكانة أمريكا كدولة بإمكانها فعل ما تريد، وأن الرياح لا بد أن تجري حسبما تريده لها سفنها، بدأت بالانحدار، وهناك أكثر من دليل على أنها تخشى اليوم أداء دورها كقوى عظمى وحدها. لا بل هناك أدلة كثيرة على أنها تخشى ليس مواجهة دولة بل مجموعة أو منظمة محددة تصنفها هي ذاتها ضمن خانة "المارقة" أو "الإرهابية".
وإن نظرنا إلى الموقف من إيران وبرنامجها النووي لرأينا أن الضعف هذا يتجلى في أقصى صوره. هنا لست بصدد قراءة الاتفاق الذي هز العالم. المسألة تتعلق بطريقة التفاوض، والقبول بدولة قيل فيها ما قيل، وطُبِّق بحقها ما طُبِّق من قرارات دولية أن تصبح فجأة ندًّا تفاوضيا لأمريكا ومعها دول كبرى أخرى.
بغض النظر عن الموقف من الاتفاق النووي – سلبا أو إيجابا – فالحدث في نظر المحللين ما هو إلا دليل آخر على دخولنا زمنا جديدا، دفة السفينة فيه لم تعد في يد أمريكا وحدها.
كيف وصلت الأمور إلى هذا الدرك، حيث تصبح فيه القوة العظمى في الدنيا رهينة دولة أو حتى منظمة؟
مؤشرات أفول نجم أمريكا في السياسة الدولية ليست وليدة اليوم.
أظن أنها بدأت عام 2000 عند دخولنا القرن الحادى والعشرين. كثيرون يتذكرون انتخابات الرئاسة الأمريكية والطريقة التي فاز بها الرئيس السابق جورج بوش. وفي السنة ذاتها، حدثت هزة أو فقاعة الإنترنت التي كانت مؤشرا على أن الأحلام الكبيرة في الثراء الذي لا حد له قد تنهار في لحظة، وقد تتكرر في المستقبل.
لم تمضِ ثماني سنوات (2008)، إلا وكانت أمريكا في هزة اقتصادية أخرى كادت أن تعصف بنظامها المصرفي. الهزة هذه لقنت العالم درسا بليغا، مفاده أن الاعتماد الكلي على أمريكا في القيادة له أخطار جمة، وأن على الدول ولاسيما المجموعات الاقتصادية الاعتماد على نفسها، والخروج بهدوء من إطار الهيمنة الأمريكية.
ولكن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت هجمات 2001. هنا نحن نحاول التحليل. التشفي والإدانة لهذا العمل مطلوب، ولكن لن يساعدنا كثيرا على تفسيره وتفكيكه لإلقاء الضوء على ما نحن بصدده.
رد أمريكا على هذه الهجمات انطلق وكأنها دولة لا حدود لسطوتها، وبإمكانها فعل ما تريد. واستجمعت قوتها العسكرية الهائلة، وأقحمت نفسها في حربين عبثيتين على أضعف دولتين في العالم وهما أفغانستان والعراق.
مجموعات ومنظمات (أغلب أفرادها حفاة القدمين)، قاومت الغزو في البلدين، وسرعان ما صار الغزو وبالا على أمريكا من حيث الخسائر. الأرقام الرسمية تتحدث عن نحو سبعة آلاف قتيل أمريكي في العراق وأفغانستان، ونفقات تجاوزت ستة تريليونات دولار.
وكشفت الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان في سجن أبو غريب في العراق، وسجن جوانتانامو في كوبا، أن هذه الدولة التي تقول إنها حامية الديمقراطية والحقوق قد تتصرف مثل أي حكومة أو ديكتاتور ينتهك حقوق شعبه.
وبدأت أمريكا تظهر علامات الضعف من الداخل، بعد ما تم تسريبه من معلومات مصنفة على أنها سرية للغاية، ونرى اليوم ضمورا في سلطة الرئاسة، حيث لا نعلم من الحاكم الفعلي، هل هو البيت الأبيض، أم الكونجرس الذي تحدى الرئيس ودعا رئيس الوزراء الإسرائيلي لإلقاء خطاب يهاجم فيه سياسة رئيس الولايات المتحدة؟
وظهر الضعف في أَجَلِّ صوره عندما تراجع الرئيس أوباما عن معاقبة بشار الأسد رغم استخدامه الأسلحة الكيماوية، وعبوره الخط الأحمر الذي وضعته أمريكا لنفسها عند التعامل مع الآخرين.
والضعف جلي أيضا في مواجهة "داعش"؛ حيث تخشى أمريكا حتى الآن رغم خطورة الموقف التدخل المباشر على الأرض.
كل هذه أرسلت إشارات واضحة إلى الكثيرين أن بإمكانهم تحدي أمريكا. والتحدي اليوم ليس مقتصرا على ما كان يعد من أعدائها التقليديين من أمثال إيران، بل وصل إلى حلفائها التقليديين الذين لم يعودوا يرون فيها ذلك الحليف الذي دائما يفعل ما بوده.
كل هذا شجع الصين مثلا على تحدي الهيمنة المالية لأمريكا من خلال صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات المالية الكبرى، وذلك بتأسيس مصرف دولي قد يوازيها ويحد من هيمنتها.
المصرف الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية يعد ندا لصندوق النقد الدولي، لكنه يقع تحت هيمنة الصين وليس أمريكا. ما يمنح هذا المصرف أهمية بالغة عدم اكتراث دول كثيرة للتحذير الأمريكي من الانضمام إليه، ولا سيما بريطانيا وأستراليا رغم كونهما من حلفائها التقليديين.
نحن أمام تغيرات هائلة، والاتفاق النووي مع إيران يدشن مرحلة تقع ضمن إطار هذا التغيير. وكل تغيير يكون الشرق الأوسط حقل التجارب فيه.