رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


العقل المنحاز .. ليكن انحيازنا حميدا

كثيرا ما يحلو لنا، ونحن أمام رأي أو موقف أو سلوك صادر عن آخرين، أن نقيّم ذلك وأن نصدر حكما بشأن خلفية هذا الرأي أو الموقف أو السلوك. وغالبا ما يأتي حكمنا على هذه الخلفية محددا بمقياس بين حدين، حد يتمثل بـ"الموضوعية" والتجرد عن الهوى وعدم الانحياز؛ وحد يرتبط بـ"التأثير الذاتي"، حيث الهوى الشخصي وعدم التجرد والانحياز إلى جانب معين دون آخر.
في العلوم الطبيعية، وفي التحليلات الرياضية وفي المجالات العلمية المختلفة، تفوز أمام الحقائق الساطعة موضوعية الرأي ويغيب التأثير الذاتي عنها. ولكن في قضايا الحياة الأخرى الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، يبرز التأثير الذاتي في النظر إلى الأمور، لتتعدد الآراء في الأمر الواحد، وتختلف جوانب انحيازها. ولعله يمكن القول، في هذا المجال، إننا جميعا كبشر منحازون انحيازا ثابتا لذاتنا وأهلنا وعقيدتنا وثقافتنا ووطننا؛ ومنحازون انحيازا متغيرا بالزيادة والنقصان لهذه الفكرة أو تلك، أو لهذا الصديق أو ذاك، أو حتى لألوان محددة دون أخرى.
ويرتبط الانحياز بقضية "الحالة الذهنية Mindset" لعقل الإنسان التي تحدثنا عنها في مقال سابق في إطار أثر تنميتها على توجه الإنسان نحو العمل واكتساب الخبرة والعطاء، وفوائد ذلك في تعزيز إمكاناته المعرفية وتفعيل قدرته على الإنجاز. هذه الحالة الذهنية هي المسؤولة عن الناحية الذاتية لدى الإنسان، وهي التي تشده ليس فقط إلى العمل والإنجاز، بل أيضا إلى الانحياز إلى هذا الرأي أو ذاك.
ولا يكتسب الإنسان حالته الذهنية بين عشية وضحاها، بل إنها حصيلة النشأة والتعلم والخبرة، ومعطيات الحياة، وبيئة العيش من حوله، وما فيها من تأثيرات في كل من المستوى المحلي، والمستوى الوطني، بل والمستوى العالمي أيضا.
وينظر إلى الحالة الذهنية للإنسان على أن لها ثلاثة مكونات رئيسة تسهم في حصيلة تأثيرها في حياته وتوجهاته. يرتبط المكون الأول بالجانب "العاطفي" من شخصية الإنسان والمشاعر التي يتأثر بها ويكتسبها. ويتعلق المكون الثاني بالجانب "الإدراكي" للإنسان وتفكيره وتعلمه، وتراكم خبراته، وحصيلة قناعاته. ويتضمن المكون الثالث الجانب "السلوكي" الذي يوجه تصرفات الإنسان وأسلوبه في التعامل. ولعله لا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه المكونات الثلاثة ترتبط بجانب الخصائص الذاتية للإنسان التي خلقها الله تعالى فيه، فليس للبشر معايير محددة تنطبق على الجميع، بل لكل إنسان تميز خاص به.
انحياز الإنسان، كل إنسان، على أساس ما سبق حقيقة قائمة في مجالات الحياة المختلفة. وقد يكون هذا الانحياز ثابتا في قضايا بعينها، أو يكون متغيرا أو قابلا للتغيير في قضايا أخرى. ولعلنا ننظر إلى الانحياز على أنه نوعان، نوع "حميد" عندما يؤدي هذا الانحياز إلى "الخير"؛ ونوع "خبيث" عندما يقود إلى "الشر". ولنا في ثقافتنا الإسلامية درس مهم في هذا الشأن علمنا إياه الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما". وهذا بالطبع انحياز واضح للأخ في كل الظروف. ولكن عندما قيل للرسول الكريم، "يا رسول الله نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما"، قال صلى الله عليه وسلم، "تمنعه عن الظلم، فذلك نصرتك إياه". وهذا هو المعنى "الحميد" للانحياز لأنه يتمتع بمرجعية أخلاقية، وهي هنا مرجعية "رفع الظلم". ففي الانحياز للأخ المظلوم رفع للظلم عنه، وفي الانحياز للأخ الظالم رفع للظلم عن الآخر المظلوم، بل وهداية أيضا للأخ الظالم. وفي ذلك الخير الحميد المطلوب في جميع المجتمعات الإنسانية.
يعلمنا هذا الدرس أن المرجعية الأخلاقية للانحياز تجعله حميدا، بل تجعله مطلوبا أيضا لما فيه من خير لجميع الأطراف. ولعله لا بد من التأكيد هنا على أن المرجعية الأخلاقية عمود مهم من أعمدة ديننا الحنيف، ليس فقط في مسألة الانحياز الحميد فقط، بل في شتى أمور الحياة. فللرسول صلى الله عليه وسلم حديث يقول فيه، "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وعلى ذلك فالانحياز الحميد المطلوب في كل الأوقات هو الانحياز لمكارم الأخلاق. ففي ذلك إصلاح لمن نحب، إذا جانبهم الصواب؛ وعدل للمجتمع بأسره يحمل الخير للجميع.
ولعلنا نقول بأسف، إن الانحياز الذي نراه من حولنا على المستويات المختلفة، ليس كله انحيازا حميدا يتمتع بمرجعية أخلاقية، بل إن فيه أيضا انحيازا خبيثا بعيدا عن هذه المرجعية. في الانحياز الخبيث تحل مرجعية الأطماع مكان مرجعية الأخلاق. ولا شك أن في ذلك "شرا وفتنة"، فإن استطاع الانحياز الخبيث أن يحقق أطماعه التي يسعى إليها، فهو بذلك يزرع الشر والفتنة في المجتمع، وذلك لأسباب بينها سببان رئيسان.
السبب الأول هو أن الانحياز الخبيث ومرجعية الطمع فيه مرض اجتماعي قابل للانتشار والتوسع، وإفساد النفوس والحياة الإنسانية السليمة والآمنة. أما السبب الثاني فهو أن نجاح الانحياز الخبيث في تحقيق أطماع الطرف المنحاز، يكون على حساب حرمان أطراف أخرى. ويؤدي هذا الأمر إلى فتنة بين أطراف المجتمع، يجب ألا تكون.
وتجدر الإشارة إلى أن وجود الانحياز الخبيث وفتنته وشروره لا يقتصر على مستوى الأفراد والمؤسسات في المجتمعات المختلفة، بل هو موجود أيضا على مستوى الدول وعلاقاتها الدولية. فكثير من الدول تنحاز في ممارسة سياساتها إلى الأطماع وليس إلى الأخلاق، وإلى طرف قد يكون باغيا على أطراف أخرى قد تكون مظلومة. وقد برزت نتيجة لذلك دعوات للإصلاح تحمل شعار "الأخلاق العالمية Global Ethics". وتطلب هذه الدعوات أن يكون هذا الشعار جزءا من "الحالة الذهنية" لجميع البشر. ولعلنا نعود إلى هذا الموضوع في مقال قادم بمشيئة الله.
هل نحن منحازون؟ نعم نحن منحازون، لكل ما نحب ومن نحب. ونريد لانحيازنا هذا أن يكون "حميدا" توجهه الأخلاق، ولا نريد له أن يكون خبيثا تحركه الأطماع. نريد أن نتمتع "بحالة ذهنية" تجمعنا على الخير؛ فطريق مستقبلنا يحتاج إلى الانحياز الأخلاقي الحميد؛ ويحتاج أيضا إلى الابتعاد عن انحياز الأطماع الخبيث. ولعل لتوجهات النشأة، والتعليم، والعلاقات الاجتماعية، والممارسة المهنية، دورا في بناء البيئة اللازمة لتحقيق ذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي