جامعاتنا وإمكانية الابتعاث الجزئي للمعيدات والمحاضرات
يواجه طلابنا وطالباتنا المبتعثون والمبتعثات في بعض الدول تحديات عدة وموجة من الضغوط والمشكلات، وقد تعاظم عليهم الخطب نتيجة الحرب المزعومة، التي تقودها دول الغرب لحماية مصالحها في الشرق، وأقنعت شعوبها بأن الإرهاب لا يأتي إلا من المسلمين، فأصبح أبناؤنا يدفعون فاتورة الحرب على الإرهاب. بعض مبتعثينا يتعرضون للضرب المبرح والبعض الآخر يتلقون الشتائم والقذف، بل وصل الأمر إلى القتل بالطعن في الرأس أوالصدر وفي مناطق متعددة من الجسم. ولا يحدث ذلك خفية، بل أمام الناس وفي المدن وقريبا من الجامعة التي يدرس أو تدرس بها المبتعث أو المبتعثة. كما أن الجهات الأمنية في تلك الدول لا تأخذ الأمر مأخذ الجد فيتم الإفراج عن المجرمين ليبقى القاتل مجهولا، وقد سجل كثير من الجرائم لمبتعثين ومبتعثات من أبنائنا ضد مجهولين.
وقد علق البعض على الأسباب الحقيقية للتعدي على المبتعثين السعوديين. ويرى هذا الصنف أنها لا تخرج عن كونها دوافع عنصرية مقيتة نتيجة الكراهية السافرة لكل ما يمت للإسلام بصلة. خصوصا أن بعض المبتعثات يرفضن التخلي عن الحجاب بل والنقاب في الظروف الحرجة. وأرى أن هذا سبب ضعيف، فالمبتعثات السعوديات لسن الوحيدات المحجبات في دول الابتعاث. فيوجد في لندن فقط أكثر من 2.5 مليون مسلم وتبلغ نسبة المسلمين 11 في المائة من إجمالي سكان لندن، إذاً هناك ملايين المسلمين في بريطانيا ومنهم من يحمل الجنسية البريطانية، كما أن هناك مئات الآلاف من المنتقبات والإسلام ليس غريبا عن بريطانيا، فهو معروف بكل تفاصيله، وكثير من البريطانيين يعرفون عن الإسلام أكثر مما يعرفون عن المسيحية. ويوجد في فرنسا أكثر من ستة ملايين مسلم.
البعض يرى أن جهل أبنائنا بقوانيين الدول والمجتمعات يعتبر سببا رئيسا لاستهداف المبتعثين السعوديين. رأي آخر يرى أن غالبية المشكلات تأتي من صغار المبتعثين بعد المرحلة الثانوية، فموجة الابتعاث استوعبت كل من لم يجد له عملا بعد المرحلة الثانوية أو الجامعية أو موظف على رأس عمله.
ورغم أنني متفق إلى حد ما مع الفئة الأخيرة، إلا أن الأمر ليس مقصورا على ابتعاث صغار السن فحسب، بل في موجة الابتعاث غير المدروسة التي تم اتباعها في السنوت العشر الماضية. لقد ذكرنا من قبل أن مجتمعنا السعودي مجتمع مغلق، وقد قبل هذا الانغلاق بنفسه، ولا أظنه سيقبل أي تأثير ثقافي على ما تعود عليه. وهذا الانغلاق ليس رفض الآخر بقدر ما هو اعتزاز بالثقافة السعودية وافتخاره بها. وقد ارتحل هذا الانغلاق (الاعتزاز) الثقافي مع أبنائنا وبناتنا في المشرق والمغرب. ولهذا تجد أن المبتعثين السعوديين انقسموا إلى فئتين. الفئة الأولى: بقيت على ما تعودت عليه وعضت على ما تربت عليه وتشبثت بما آمنت به، فلا تقبل أنصاف الحلول وترى أنها مصدر التأثير في المجتمعات، ولن تقبل التأثير الحضاري أو الثقافي من أي جهة، وهذا النوع غير مرحب به من قبل الثقافات الأخرى، وإن كانت ترفع شعار الحرية والرأي والرأي الآخر والديمقراطية، ونراها تفضل من ينسلخ عن ثقافته ويتبع ملتها. وما قضية حميدان التركي إلا برهان ساطع على ذلك.
فئة أخرى: وهي قليلة تشعر بانهزامية، ولهذا نجدها قد انصهرت في المجتمعات وكفرت بالمعتقدات وتمردت على العادات وأدارت ظهرها للقيم والمبادئ والأخلاقيات، وتنظر إلى موطنها وثقافتها على أنها رجعية بدوية جاهلية، وترى أن الحل الأمثل اجتثاث الثقافة الأم من أصولها. وهذا ليس مقتصرا على المبتعثين الذكور بل حتى المبتعثات. بعض المبتعثات خصوصا المبتعثات بدون محرم عجزن عن حمل هويتهن، وبهذا أصبحن أمام أمرين إما العودة بدون مؤهل وإما الانسلاخ عن الجوهر والتمرد على الثقافة الأم. ولا تقل لي إن أنظمة الابتعاث ترغم المبتعثات على وجود المحرم، فكثير يحتالون على هذا الشرط، فيذهب المحرم مع المبتعثة لعدة أسابيع ثم يعود أدراجه ويترك المرأة تواجه صنوف المتاعب، حتى لو كان ذلك المحرم زوجا أو أبا.
ولأهمية إبراز التحديات التي تواجه المبتعثات، سأذيل المقال بالتركيز على أهم تلك التحديات. قد نقبل تجاوزا أن يزج بالمبتعثات في برنامج الابتعاث أسوة بالذكور من قبل برنامج الابتعاث، إلا أن هذا غير مقنع في الجامعات. ونحن هنا نتساءل: لماذا ترغم الجامعات منسوباتها من معيدات ومحاضرات على الابتعاث؟ لماذا تهدد الجامعات منسوباتها بتحويلهن إلى إداريات إذا رفضن الابتعاث؟ والذي نعرفه أن المعيدات والمحاضرات في الجامعات لم يرفضن مواصلة التعليم والحصول على الماجستير والدكتوراه، فأظنهن لم يتعين في الجامعات إلا وقلوبهن تتفطر على الظفر بالدرجة العلمية، إلا أن بعضهن يرفضن الابتعاث الخارجي لظروفهن وضعفهن، خصوصا غير المتزوجات، حتى إن كانت متزوجة فكيف تتخلى عن أسرتها وزوجها وأطفالها خصوصا إذا كانت ظروف الزوج الوظيفية غير مواتية؟
وأريد أن أختم فأقول: إن الجامعات لن تعجز في إيجاد حلول تحفظ بها بناتنا من الغربة والتغريب وتحميهن من الامتهان ومواجهة مصاعب الاغتراب، فالحياة للمرأة المبتعثة في دول الابتعاث وإن كانت ثرية من الناحية العلمية والخبرة الأكاديمية إلا أنها لا تناسب كثيرا منهن، وهناك عديد من المقترحات تم تطبيقها في بعض الدول مراعاة لظروف المرأة في تلك الدول، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الانتظام الجزئي للمبتعثة، أي أن تكون المرأة موجودة في جامعتها السعودية وتمارس عملها بواجبات محدودة وتتواصل مع بعض الجامعات في الحضور جزئيا لعدة أشهر أو أسابيع خلال العام. وبهذا تجمع بين الاستفادة العلمية والمحافظة على مكتسباتها ووظيفتها الأساسية كأم وزوجة، ويمكن للزوج أن يبقى في عمله ويذهب مع زوجته المبتعثة بإجازة محدودة دون الحاجة إلى أخذ إجازة بدون راتب أو التضحية بوظيفته مصدر رزقه وقوت أبنائه.. ولنا عودة لموضوع المصاعب التي تواجه المحرم في دول الابتعاث في مناسبات قادمة، إن شاء الله.