سعود الفيصل سيبقى في ذاكرة الوطن
افتقدت المملكة العربية السعودية خصوصا والساحة الدبلوماسية العربية والإسلامية عموما، فارسا محنكا، وقائدا حكيما مميزا، مارس السياسة الخارجية بنزاهة وصدق وإخلاص لوطنه وأمتيه العربية والإسلامية، وسطر فصولا من الإنجازات والمواقف المشرفة. لقد تميز الأمير سعود الفيصل الحاصل على البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة برنستون في الولايات المتحدة الأمريكية بسمات شخصية فذة وفريدة، واستند إلى أساس علمي متين، واتكأ على إرث تربوي أصيل، واستفاد من خبرة عملية متنوعة.
لا شك أن "مدرسة" والده الملك فيصل، يرحمه الله، التي ترعرع في كنفها، ونهل من معينها علما دينيا منذ نعومة أظفاره، واستقى منها قيما أخلاقية كالحنكة السياسية والجرأة والشجاعة، وتعلم منها بالمعايشة أصول الدبلوماسية والشؤون السياسية، أسهمت في تشكيل شخصيته المميزة.
أما بالنسبة للخبرة العملية، فقد مارس الأمير الفيصل العمل في مواقع متعددة في مجال الشؤون البترولية لعدة سنوات، ما أضاف إلى رصيده العلمي الذي استمده من تخصصه في الاقتصاد، وهو العلم المهم لممارسة السياسة والدبلوماسية. وإلى جانب ذكائه وقدراته الذاتية، فإن هذه الخبرة العملية في مجال البترول مكنته من فهم عميق لشؤون الاقتصاد والسياسة على المستوى العالمي، وساعدته على اتخاذ القرارات الحكيمة كوزير لخارجية أكبر دولة بترولية.
عمل سعود الفيصل وزيرا للخارجية منذ 1975؛ أي منذ أربعة عقود، وواجه خلالها أصعب التحديات والظروف الدولية، ولكنه أدار الأزمات بحكمة واقتدار، واستطاع حماية المملكة من كثير من العواصف الهوجاء التي عصفت بالمنطقة، كما تعامل بحكمة وإخلاص مع قضية فلسطين، وأولى القضية اللبنانية اهتماما خاصا في مراحلها المختلفة مرورا باتفاق الطائف، ثم الحروب والأزمات اللاحقة، وتعامل مع أزمة 11 سبتمبر، وما نتج عنها من سلبيات بحكمة، بحيث استطاع قيادة الجهود للحفاظ على سمعة المملكة، ولا يقل عن ذلك ما بذله من جهود حيال قضية احتلال العراق. وكانت له رؤية ثاقبة حول الأوضاع المأسوية في سورية، فقد دعا إلى تنفيذ ضربات جوية ضد مواقع تنظيم "داعش" في سورية والعراق، مشجعاً على التدخل المبكر في الأزمة السورية لتجنيب الشعب السوري أخطار الإرهاب؛ نتيجة سيطرة التنظيمات المتشددة، وتسلط النظام السوري ووحشيته.
يشهد له من تعامل معه على المستويين الرسمي والشخصي بذكائه الحاد، وسرعة بديهته، وقدرته الفائقة على المداخلات الفكرية، وحكمته في إدارة الأمور. ومع هذا التألق الدبلوماسي الجاد، حفلت حياته بمواقف إنسانية كثيرة، برزت في أوقات مختلفة ومواقف متباينة، ولعل آخرها التعامل مع حالته الصحية بدعابة وطرفة سواء عندما قال للإعلاميين: "من يريد أن يسابقني"، أو عندما كان في مجلس الشورى يلقي خطابه، فاعتذر من الحضور قائلاً إن حالته الصحية أشبه ما تكون بحالة الأمة العربية.
لا شك أن الأمير سعود الفيصل سيبقى في ذاكرة الوطن على مر الزمن، لمكانته الكبيرة في قلوب الناس، وإسهاماته المميزة في خدمة الوطن، ما يجعله مدرسة في مجال الدبلوماسية والسياسة الخارجية تستحق التسجيل والتوثيق بموضوعية ودقة، لتستفيد منها الأجيال المقبلة، وتسهم في فهم تاريخ مرحلة زمنية مهمة من تاريخ المملكة والمنطقة العربية برمتها.
أدعو الله للأمير سعود الفيصل بالرحمة والمغفرة وسكنى فسيح الجنان، وأن يجزيه خير الجزاء على ما قدمه للوطن من خدمات جليلة خلال سنوات عمله الطويلة.