رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


السعادة .. النط فوق السور

رمضانيات - 11
.. بكل أمة طبقة من الأشخاص يحب الغربيون أن يسموها "الإيليت" من الكلمة الفرنسية L’Elite. وهي مكونة من كل نخب طبقات المجتمع وترتفع كما ترتفع الزبدة بعد الخض فوق اللبن. ويسميهم زكي نجيب محمود ومحمد مندور وعبدالرحمن بدوي وتوفيق الحكيم بقشطة المجتمع. فلنتفق نحن أنهم النخبة أو الصفوة من عقول الأمة من مفكريها وعلمائها وفقهائها وساستها ورجال الاقتصاد والصناعة والمال. وهم دليل الأمة ومقياس جدارتها في التفوق والنهوض والازدهار، بشرط أن يعملوا ويساهموا في وضع قاطرة الأمة على قضبان السكة الصحيحة نحو الاتجاه الصحي لتقطر باقي عربات الأمة. هذه العقول المميزة كلما شاركت بالعمل وإبداء المشورة والنصح الصادق خارج الإطار المباشر لأي مصلحة أو تأثير فرديين، كلما صب في مصلحة الأمة.
من الأمثلة الساطعة لقوة سياسة اختيار العقول الصفوة في الأمة ما حدث بالولايات المتحدة أيام الكساد الكبير أول ثلاثينيات القرن العشرين. وقتها كانت الأمة الأمريكية ترزح تحت أكبر كابوس اقتصادي يمكن أن يتخيله شعب بالكامل. تهاوت البورصات، وانهارت العملة، وقفلت المعامل، وسرح ملايين العمال، ودخلت البلاد في مضيق خانق مظلم لا سفَر به. وحاولت حكومة الرئيس "هربرت هوفر" بموظفيه الرسميين أن يخرج البلاد من حمأة الكساد الهائل، ولم ينجح. ثم خلـَفـَه مباشرة الرئيس فرانكلن روزفلت. لم يشأ روزفلت أن يخاطر أكثر بمصير الأمة، فعمد إلى ما أسميه بالنط وراء السور، أي أن يخرج المسؤول من سور مبنى إدارته ويستعين بعقول حرة ومميزة تعطي الرأي الواضح بدون أي مؤثرات. وهذه طريقة فيزيائية صحيحة، فقد تتعجب أن ريشة وطنا حديدا إن رميتهما من سطح عمارة سيصلان في وقت واحد مع أن الحس المباشر سيقول لك الحديد وهذا ما سيقع أمام ناظريك. في العلم تزاح المؤثرات الخارجية التي تربك تناهي دقة التجربة العملية، فهما يصلان بفعل الجاذبية الأرض في وقت واحد متى عزلنا المؤثر الخارجي وهي هنا الرياح، فنخرج بنتيجة سليمة مائة في المائة، وإن بدت خارج النمط المدرك. وهذا ما يشابه الاستعانة بأصحاب العقول الراجحة حكمة وعلما ومعرفة وبلا مؤثر خارجي كقيود المنصب ومستلزمات السمت الرسمي وثقل مرونته.
والمهم، روزفلت استعان بخير عقول الأمة خارج سور البيت الأبيض وجعلهم مستشارين له بدون أي استبداد برأي، وخرجوا بالصيغة الشهيرة "الصفقة الجديدة The New Deal " لانتشال البلاد من حافة الهاوية. وبالفعل خرجت أمريكا من أزمتها الخانقة، ولم تأت الحرب الكونية الثانية إلا وأمريكا بعصر ذهبي من القوة والثروة. وأعيد انتخاب روزفلت ثلاث مرات.. ألاحظتم؟ ليس مرتين، بل ثلاث!
وتبقى إشكالية ذكرها المقفع على لسان "بيدبا" الفيلسوف لما قال إن السلاطين لا يرون إلا من حولهم، ولأن من حول لهم لا شاغل له سوى الوجود بحضرتهم فهم أدنى طبيعيا بالاختيار، بينما يبقى أصحاب العقول المميزة في شغل شاغل بصناعاتهم، ولا يتقدمون أمام الحاكم ليتعرف عليهم وعلى قدراتهم.
ولا شك أن أخانا "بيدبا" شط في هذا القول شططا عميقا، ولكن يكشف فكرة عدم إقدام أصحاب العقول على الظهور أمام مسؤوليهم أو حكامهم، وهنا بطبيعة البشر والمسؤولية لا يمكن للحاكم بائتمانه على رعيته إلا اختيار من يعرف وليس من لا يعرف.
وهي دعوة أن يتقدم أصحاب العقول لكشف قدراتهم، ودعوة للمسؤولين النط فوق السور، والبحث عن تلك العقول.. وسيكون البحث عنها سعادة، والعثور عليها سعادة أكبر!
.. وعيدكم مبارك مقدما، وكتبكم الله من السعداء في الدنيا والآخرة، فهذا آخر مقال إلى بعد نهاية العيد "السعيد" بإذن الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي