لماذا انكب الغربيون على قراءة هذا الكتاب؟
لم يمض على نشره عدة أشهر، أخذ هذا الكتاب بألباب الناس في الغرب، فأقبلوا على قراءته أفواجا وأصعدوه إلى قمة المبيعات في كبريات المكتبات العالمية الإلكترونية والورقية في حقله خارج نطاق الأدب القصصي.
وعند اطلاعي على عروض عديدة له في أمهات الجرائد العالمية، هرعت إلى شراء الكتاب وبدأت في قراءته بنهم. لم أرفع ناظري عنه إلا في سويعات الظهيرة وبعد منتصف الليل لأخذ قسط من النوم.
أنهيت قراءة صفحاته التي تزيد على 400 في أربعة أيام. وبعد ذلك بدأت أفكر وأتأمل أولا في نفسي ومستقبلي وما أنا كإنسان وكيف نشأت ووصلت إلى ما أنا عليه، ما هو حاضري وما ينتظرني؟
نحن الأكاديميين ندعي أننا نحث الآخرين على إشغال عقولهم وملكاتهم النقدية. هدفنا، لا سيما الذين ينتهجون المدارس النقدية، أن نمكن الناس من التفكير العميق وإثارة الأسئلة ووضع الفرضيات ومن ثم الإجابة على الأسئلة ومعالجة الفرضيات ضمن سياقها التاريخي والاجتماعي والثقافي قبل اتخاذ أي موقف أو قرار أو حكم.
ونحض أنفسنا والناس على عدم قبول أي ظاهرة أو فكر مهما كان قبل مناقشته ونقول، ليس هناك شيء بدهي ومن المسلمات وكل شيء قابل للتغيير.
هل نفلح في مسعانا؟ كلا. الناس تتشبث بالبدهيات والمسلمات في كل الأمور تقريبا وحتى في أسلوب وطريقة حياتها ولا تقبل التغيير ما لم تتعرض إلى هزة عنيفة.
أعنف هزة يتعرض لها الناس تقع عندما يعبر الأكاديمي سياج الجامعة ويكتب للناس ومن أجل الناس كي يؤثر في الناس ويعرفهم بواقعهم الاجتماعي، مبرهنا لهم أن ما هم فيه غير مستديم وله خطورته عليهم.
كنت أتصور أننا سننتظر كثيرا قبل أن يهزنا عالم أكاديمي آخر بعد الذي أتانا من "توماس بيكتي" صاحب كتاب "الرأسمالية في القرن الواحد والعشرين"، الذي كانت جريدتنا الغراء السباقة في تعريف قراء العربية به.
ولكن لم يدم انتظارنا طويلا، حيث ظهر على الساحة كتاب آخر لا يقل أهمية عن كتاب "بيكتي". "بيكتي" درس تاريخ الاقتصاد والرأسمالية كي يبرهن أن النظام الرأسمالي وعدم المساواة التي خلقها سيؤديان إلى اضطرابات عارمة إن لم تتم معالجتها، موضحا ذلك بالأرقام والجداول.
واليوم يقف بالقارئ الغربي مشدوها أمام كتاب آخر يقرأ تاريخ البشرية برمتها وكيف تطور إلى ما وصلنا إليه ولماذا صرنا نحن البشر على ما نحن عليه وما هو حالنا وماذا ينتظرنا؟
يوفال هاريري في كتابه "الإنسان الحديث، مختصر تاريخ الجنس البشري" يقدم لنا شرحا وافيا لتطور الإنسان منذ أن كان جامعا لقوته إلى أن تحول للزراعة ووصل إلى عصر الصناعة وكيف وصل به الأمر أن يصبح اليوم رهينة للتكنولوجيا البيولوجية والرقمية الحديثة وتقنيات الذكاء الاصطناعي.
إن كانت مرحلة التطور من حقبة إلى أخرى في الماضي تستغرق آلاف السنين مثلا، فإن نقل الإنسان ضمن تقنيات اليوم من مرحلة إلى أخرى قد لا يستغرق قرونا أو بضعة عقود.
ويستنتج أننا قد لا ننتظر طويلا أو حتى عام 2200 كي نصبح نحن والتكنولوجيا واحدا، تؤثر في تكويننا وبنيتنا وميولنا وعواطفنا وأفكارنا وثقافتنا وتراثنا وكل شيء نملكه تقريبا بطريقة لم يؤثر فيها أي تطور في حياة الإنسان منذ أكثر من 10000 سنة.
وهاريري في كتابه يسرد لنا قصة الماضي كي نفهم الحاضر والمستقبل الذي ينتظرنا.
يرى في إنسان اليوم أنه وصل إلى عدم ثقة وطمأنينة وأمان لم تصله البشرية منذ ظهورها على وجه الأرض. فالإنسان منهمك بتطوير حلقات تكنولوجية لا يعرف نتائجها وليس بإمكانه التكهن بعواقبها.
وهذه الخشية من المجهول جعلت الناس تحاول بشتى الطرق أن تزيد من ملكيتها وطاقتها وسطوتها إلى درجة أن ليس هناك حد لإشباع الرغبات في كل شيء من ضمنه تملك الأسلحة الفتاكة.
وليس اليوم هناك حد لما يريد الإنسان أن يملكه. التراكم المادي والتراكم المعرفي لا سقف لجبلهما. الناس في الماضي، يقول هاريري، لم تفكر أو يرد بخلدها أنه عليها أن تمضي فترة استجمام أو تذهب في رحلة تسوق طائشة إلى عاصمة بلد آخر كما يحدث اليوم.
نحن في هذا العصر، يضيف الكاتب، فقدت فيه الحكومات صلاحياتها وأصبحت بمنزلة دوائر تمشية الأمور لأن الصلاحيات صارت بيد قلة من الرواد في التكنولوجيا مثل "جوجل" و"فيسبوك" و"أبل" و"تويتر" وشركات التكنولوجيا الفائقة العملاقة الأخرى التي تحتل الإنسان وتؤثر فيه وفكره وتكوينه من حيث لا يدري.
لا غرابة أن يكون مارك زوكربيرج مؤسس "فيسبوك" واحدا من أكثر المعجبين بالكتاب.
والكتاب له حتى الآن نحو 900 عرض في الأمازون فقط.
وقد تم ترجمته إلى عدة لغات للتو ومنها السويدية التي ينطقها ثمانية ملايين إنسان. ولكن متى سيتم ترجمته إلى العربية التي ينطقها 400 مليون إنسان إذا كان كتاب "بيكيتي" لم تتم ترجمته حتى الآن.