نستطيع أن نكون أذكى وأن ننجز أكثر
نحن في هذا العصر في بيئة عنوانها "السباق على المعرفة الحية"، المعرفة القابلة للتطبيق، والقادرة على الإنجاز والعطاء عبر منتجات وخدمات جديدة أو متجددة، أو ربما من خلال إجراءات وأساليب عمل أعلى كفاءة وأكثر فاعلية في مجالات الحياة المختلفة. ولا شك أن الرصيد الأساس في هذه البيئة هو "الإنسان"، فالمعرفة هي ما يعرف وما يستطيع أن يعرف، والإنجاز هو عمله وما يستطيع أن يقدم. والجوهر المحرك لذلك هو "العقل" الذي ميز الله به الإنسان عن سائر مخلوقاته، وحمله مسؤولية تحصيل العلم والتفكر والتدبر في قضايا الحياة، ومسؤولية العمل الصالح في التعامل والسلوك.
وقد طرحنا في مقال سابق إمكانات العقل الرئيسة الخمس التي أوصى "هوارد جاردنر"، الأستاذ في جامعة هارفارد، بالعمل على تطويرها من أجل مستقبل أفضل. وقد أسميت هذه الإمكانات "عقولا" في إطار "التكوين الشامل للعقل البشري"؛ وتضم: "العقل المدرّب؛ والعقل التجميعي؛ والعقل الإبداعي؛ وعقل الاحترام؛ إضافة إلى عقل الالتزام الأخلاقي". وسنناقش في هذا المقال قضية رئيسة غايتها العمل على تحقيق هذا التطوير، ألا وهي قضية "الحالة الذهنية mindset" لعقل الإنسان، وأثرها في الارتقاء بإمكاناته المعرفية وإنجازه الأعمال المختلفة. ولعلنا نجول في بعض الأفكار المطروحة حول هذه القضية ونحاول استشراف بعض التوصيات بشأن المستقبل.
ربما كان من المناسب، في طرح فكرة "الحالة الذهنية"، أن نبدأ بقول مأثور يرتبط بهذه الحالة، قاله هنري فورد، أحد رواد صناعة السيارات في العالم في مطلع القرن العشرين. وهذا القول هو التالي "إذا قلت أستطيع، أو قلت لا أستطيع، فأنت على حق". والمقصود بهذا القول أن أي أمر تود إنجازه يعتمد، ليس فقط على قدرتك على ذلك، بل على حالتك الذهنية التي قد تتضمن الإقدام على العمل، رغبة في التجربة والاكتشاف، أو قد تشمل الابتعاد عنه خوفا من بذل الجهود دون أن يكون النجاح مضمونا. وعلى ذلك فـ"الاستطاعة أو عدمها" في قول "فورد" ترتبطان بصوت الحالة الذهنية للإنسان بحالتيها، الإيجابية الخاصة بالاستعداد للعمل على أمل النجاح؛ والسلبية القاضية بالابتعاد عنه تجنبا لاحتمالات عدم النجاح.
وفي مسألة "الاستطاعة"، عبر الإقدام والاجتهاد والمثابرة، يصف المخترع الشهير توماس إديسون، الذي عاصر سنوات من القرنين التاسع عشر والعشرين، عمله التجريبي في الابتكار بالقول: "أنا لم أفشل؛ لقد استطعت إيجاد ألف طريقة لا تؤدي إلى الابتكار المنشود". والمعنى هنا أن للعمل قيمة، حتى وإن لم يتكلل بالنجاح، لأن فيه خبرة تضيف إلى المعرفة، وترتقي بالإمكانات المعرفية في تنفيذ أعمال مستقبلية جديدة. كما أن الواضح هنا هو أن المخترع الشهير ينتمي إلى الحالة الذهنية التي تتجه نحو الإقدام، نحو "أستطيع" ومستعد للعمل، حتى وإن كان النجاح الكامل المنشود احتماليا وليس مؤكدا.
ولإديسون توصية مهمة في إطار ما سبق؛ تقول هذه التوصية التالي: "يكمن الضعف الكبير فينا في عدم إدراك أن طريق النجاح هو أن نحاول مرة أخرى". تحمل هذه التوصية ضرورة التوجه نحو حالة "أستطيع" الذهنية الإيجابية؛ والابتعاد عن حالة "لا أستطيع" الذهنية السلبية التي تخشى الإقدام دون ضمان مؤكد.
واليوم وبعد إديسون بنحو قرن من الزمان، تبرز دراسات مهمة بشأن "الحالة الذهنية"، وضرورة الاهتمام بشؤونها والعمل على تطويرها، لأن في ذلك تطويرا للعقول الخمسة والإمكانات المعرفية المرتبطة بها، وتعزيزا للإمكانات والإنجاز والقدرة على العطاء. ولعل بين أبرز الشخصيات البحثية المهتمة بتطوير الحالة الذهنية للإنسان كارول دويك الأستاذة في جامعة ستانفورد. فقد ألفت أكثر من كتاب في الموضوع، إضافة إلى بحوث كثيرة بشأن قضاياه المختلفة.
تبين كارول دويك أن في فطرة الإنسان رغبة في الاكتشاف والتجريب والعمل، لكن قوالب المدرسة والدراسة وأساليبها تعوق هذه الفطرة. فكثير من الطلاب يخشون التجربة، ويخشون الحوار، وإبداء الرأي في حل المشكلات المختلفة، ويبتعدون بالتالي عن المشاركة المعرفية، وعن التجديد والإبداع والابتكار والتفكير من خارج الصندوق. والسبب في ذلك أنهم يخشون من الخطأ، ويخشون من تهديد وضعهم المدرسي، وانخفاض درجات تحصيلهم. وعلى ذلك فإن مثل هؤلاء يكونون في "حالة ذهنية" غير متطورة أو غير موجهة نحو تنمية الإمكانات المعرفية، وروح التجدد والإبداع. ويطلق على مثل هذه الحالة تعبير "الحالة الذهنية الثابتة Fixed Mindset".
تدعو كارول إلى التخلص من الحالة الذهنية الثابتة والعمل على بناء "الحالة الذهنية النامية Growth Mindset" لدى الناس جميعا بصورة عامة، ولدى طلاب المدارس، رصيد المستقبل، على وجه الخصوص. والحالة الذهنية النامية هذه هي الحالة التي تقول "أستطيع"، وأقبل التحديات وأحاول، وأبني الخبرات وأستفيد منها.
وقد تم إجراء تجارب شملت بناء حالة ذهنية نامية لمجموعات من الطلاب، ومقارنة أداء هذه المجموعات بأداء أصحاب الحالة الذهنية الثابتة. وتقول النتائج إن أصحاب الحالة النامية كانوا يحققون تفوقا مطردا على أصحاب الحالة الثابتة، حتى على أولئك الذين كانوا أكثر منهم تفوقا. لقد نمت القدرات الذهنية لأصحاب الحالة النامية، وازدادت إمكاناتهم المعرفية، وتراكمت خبرة العمل والإنجاز لديهم، وباتوا أكثر فاعلية، وأعلى قدرة على العطاء.
إن بناء الحالة الذهنية النامية للناشئة في المدارس استثمار مهم للمستقبل. فهو يجعل الأجيال الجديدة أكثر إيجابية وإقداما على العمل، وعلى التعامل مع المعرفة الحية، والسعي إلى تجديدها، وعلى العمل والإنجاز وتحقيق الأهداف. لكن هذا البناء يحتاج، ليس فقط إلى كوادر مؤهلة في هذا الأمر، بل إلى إعادة نظر في أساليب التعليم والتقييم لتكون أكثر توجها نحو تنمية شخصية الطالب واستجابته للعمل وقدرته على العطاء.
نعم نستطيع أن نكون أذكى وأن ننجز أكثر، إذا أردنا أن نكون كذلك، وملكنا الحالة الذهنية النامية التي تدفعنا إلى التفكير بروح إيجابية، وإلى الإقدام على العمل والمثابرة فيه وحل المشكلات التي تصادفنا. ولا شك أن في العمل قيمة، فإن لم يؤدِ إلى نجاح كامل، فقد يؤدي إلى نجاح جزئي، أو إلى خبرات جديدة تمثل رصيدا لأعمال المستقبل. ونحن في عصر السباق على المعرفة الحية محتاجون إلى الإنسان المتميز الذي يتمتع "بحالة ذهنية نامية".