اتبع عطاءك .. ثم اصنع شغفك
كان عنوان مقال يوم الجمعة الفائت "لا تتبع شغفك"، واليوم سأستخدم مثال بسيط وعملي لمسألة الشغف وارتباطها بالتجربة والعطاء. للشغف أهمية قصوى ولكننا نبحث عنه ونستخدمه بالطريقة الخاطئة في كثير من الحالات. مختصر المقال السابق أن الشغف يجب ألا يدفعنا نحو التنفيذ بالحالة التي وجدناه عليها، الشغف ليس هو ذلك الشيء الذي يحصل من تلقاء نفسه ونتبعه كما هو، كلا، الشغف دافع أصيل يمكن صناعته وتشكيله حسب احتياجاتنا، ولهذا يجب أن يقود العطاء ــــ وليس الشغف النابع من التجربة الحقيقية، أداءنا ويغذي أحلامنا ويصنع كل ما نحتاج إليه من وقود الشغف الذي لا غنى عنه.
أما المثال، فهو العمل الروتيني الذي يكاد يكون أحد أهم مواطن صناعة الشغف، سواء كان تقليديا أو إبداعيا، يحدث من خلال وظيفة اعتيادية أو تجارة حرة. لذا، سأطرح أربع نقاط تتناول كيفية إيجاد وصنع الشغف أثناء العمل وليس قبل العمل، بعد التجربة وليس قبل التجربة؛ هذه هي الطريقة الأفضل لصنع الشغف المؤثر، بالاستناد إلى الخبرات الشخصية وليس الأحلام الوردية.
أولا، اجمع الأفكار المميزة التي استطعت تكوينها عن تخصصك أو عملك والتي لا يتحدث عنها أو يتعامل معها الآخرون. إذا لم تجد شيئا فأنت لم تكتشف المجال الذي تعمل به بعد. وعليه ستكون أمامك حينها رحلة معتبرة من التعلم التي تمكنك من اكتشاف محاور جديدة للشغف. نحن نبحث هنا عن تلك الزوايا التي لم ينظر إليها الغير بعد، تلك التصورات الخاصة التي نصنعها بأنفسنا وعلى طريقتنا، هنا بالتحديد يولد الشغف، وليس نتيجة لتلك المعلومات الأساسية التي يعرفها الجميع ولم يجربها في معظم الحالات أحد! بالبحث عن محركات الفضول الطبيعية الموجودة لدى كل إنسان تكمن البداية، ومع بعض الترتيب والسكينة والثقة أفكارنا وأحاسيسنا يبدأ الشغف في التشكل والتأثير.
ثانيا، يستحيل أن يولد الشغف عندما نسمح للبيئة السلبية المحبطة بالسيطرة علينا، وهذا تماما ما يحصل عندما نشارك الساخطين والقانطين أجواءنا وحظوظنا، في النهاية إما أن يصبحوا مثلنا أو نصبح مثلهم. تحسين الأجواء المحيطة بالشخص والحفاظ على المساحة الإيجابية الكافية متطلب أساسي لصنع الشغف. يشمل تحسين الأجواء كل ما يحيط بالشخص من أشخاص وأفكار وأشياء، بما في ذلك الديكورات والأجواء العامة. وقبل ذلك طبعا مكان العمل، لذا، وكما تبحث جهات العمل الجيدة عن المكتشفين والمبدعين، على الشخص الطموح الباحث عن الشغف إيجاد المكان الذي يستحقه، العمل في مكان متواضع "تحفيزيا" يعني التنازل عن فكرة الشغف وقتلها في مهدها، وبالتالي التنازل عن كل تبعات الشغف من تحفيز واندفاع وطموح ونجاح، وأترك للقارئ البحث عن الأمثلة، فخياراتنا المحلية تعج بها.
ثالثا، يكبو الحماس عند ضعيف المهارات، ذلك الذي يعجز عن إتقان عمله وبيع اسمه بنجاح. يصطدم مثل هذا بالحواجز التي تعرقل تطوره المهاري وتؤخر تواصله مع الآخرين، ويفقد بالتالي قدرته على صنع الشغف باستغلال الظروف من حوله فتتخابط أسهمه بدلا من أن تتصاعد نجاحا. وهذا تماما ما يتكلم عنه كال نيوبورت في كتابه "كن متميزا حتى لا يستطيعون تجاهلك". يتحدث كال في كتابه عن تفكير "الحرفي" الذي يمكن أن يستخدم في أكثر من سياق - أي حتى في الأعمال غير الحرفية - وهو إجمالا ينحصر في تحديد المجال الذي ترغب في خوضه والمهارة الأساسية التي يتطلب إتقانها ومعايير إتقان هذه المهارة والممارسة المتعمدة المكررة والصبر. وهنا تتجلى فكرة التجربة التي تصنع الشغف - الشغف لا يُتّبَع كما هو هنا - فالتكرار يعزز المهارة التي بدورها ترفع من قيمة الشخص وتجعله أكثر أهمية لمن حوله، وبالتالي، يولد له شغفا يتعلق بما يتقن ويرتبط بمن يستفيد منه.
رابعا، يظن بعضنا أن النزاهة تستلزم علينا أن نحدد سقف مسؤولياتنا وقدراتنا أمام الغير، بحثا ربما عن الواقعية والشفافية والمظهر الصادق. تماما مثل الذي يقول: "سأبذل جهدي، ولكنني قد أصيب وقد أخطئ" ويقول آخر: "أنا أحاول وأجتهد، ولكن قدراتي لا تضمن النجاح" أو مثل الذي يريد التواضع فيظهر بالوهن والتردي. تقول النصيحة الإنجليزية: Don’t sell yourself short ومعناها الاصطلاحي ألا تقلل من نفسك. التقليل من الذات من أهم أسباب الفشل في المقابلات الشخصية والتطوير الوظيفي ويصنع أثناء العمل الكثير من الحدود المانعة لتبلور الشغف وتطوره.
في النهاية، تتعدد الأسباب ولكن جميعها يبدأ بالممارسة وينتهي معها، وهكذا يرتبط الشغف بالعطاء ويأتي لاحقا له. مع الوقت، ومتى ما تنبهنا لها، تتنامى مثل هذه المهارات التي تمكننا من التحفيز الذاتي والسيطرة على مدخلات النجاح في الحياة العملية. ليس بالضرورة أن نجد أعمالا توائم شغفنا، بل إن هذا أقرب إلى عدم الحدوث. ولكن من المهم أن نتمكن من استلهام الشغف وتنميته من كل تجربة نخوضها.