رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


5 عقول في خدمة تميز العقل الواحد

يتمثل "التميز" في إمكانات خاصة تمنح صاحبها "تفوقا" في مجال من المجالات. وكي يتحول هذا التميز إلى "قيمة"، لا بد من أن يقترن "بالمسؤولية" التي تشمل: مسؤولية الاهتمام بهذا التميز والسعي إلى تنميته من جهة، ثم مسؤولية استخدام هذا التميز بفاعلية وكفاءة ومرجعية أخلاقية من جهة ثانية. وإذا كان الله -سبحانه وتعالى- قد ميز الإنسان عن سائر مخلوقاته "بالعقل"، فقد طالبه بمسؤولية تنميته بالعلم، حيث قال تعالى في سورة الزمر "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب"؛ كما طالبه أيضا بمسؤولية العمل الصالح، حيث قال في سورة البقرة "والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون".
ميزة العقل التي يتمتع بها الإنسان مكنته مما نشهده اليوم من تقدم علمي وعطاء تقني وإعمار للأرض. ولعله يمكن القول أيضا إنه على الرغم من ذلك لم تأخذ هذه الميزة بعد نصيبها المتوقع من المسؤولية المنشودة، خصوصا مع وجود المشكلات الدولية العديدة حول العالم. وهناك دراسات وفرضيات واكتشافات كثيرة حول العقل وتكوينه وإمكاناته، وتوجهات تنميته، وقضايا استخدامه. ومن أبرز الدارسين لهذا الأمر هوارد جاردنر الأستاذ في جامعة هارفارد. وهو صاحب نظرية "تعدد أنواع الذكاء" التي تطرقنا إليها في مقال سابق؛ وهو أيضا مؤلف كتاب "العقول الخمسة للمستقبل"، المنشور عام 2009. ويدعو الكتاب إلى تنمية الإمكانات الموجودة فعلا في عقل الإنسان ليكون أكثر فاعلية ومسؤولية في الحياة.
يطرح "جاردنر" خمسة إمكانات رئيسة للعقل ينبغي تطويرها نحو الأفضل من أجل مستقبل أفضل، ويسمي هذه الإمكانات "عقولا" في إطار "التكوين الشامل للعقل". وتضم هذه العقول الخمسة: "العقل المدرب، والعقل التجميعي، والعقل الإبداعي، وعقل الاحترام، إضافة إلى عقل الالتزام الأخلاقي". وسنلقي الضوء على المقصود بكل من هذه العقول وآفاق تطويرها، كي يكون الإنسان أكثر قدرة على مواجهة المستقبل، والإسهام في حل مشكلاته.
ولعلنا نبدأ "بالعقل المدرب"، وهذا العقل هو الذي اكتسب أسلوبا في رؤية الأمور والتفكير فيها من خلال ما ناله من علم ومعرفة وخبرة مهنية في مجال تخصص صاحبه. ويرتبط تفكير هذا العقل بعدة أنواع من الموضوعات التخصصية التي تطبع المهن المختلفة بطابعها. وتطرح في هذا الإطار أربعة مجالات رئيسة تشمل: الموضوعات ذات الطابع الرياضي، والموضوعات ذات الطابع العلمي، والموضوعات ذات العلاقة بالتاريخ والتجارب الإنسانية السابقة، والموضوعات المختصة بشؤون الأدب والفنون المختلفة. وهناك بالطبع مجالات أخرى تتضمن مزيجا من مجالين أو أكثر من هذه المجالات.
ويطلب عموما من كل إنسان أن يلم إلماما عاما بمختلف هذه المجالات، قبل أن يتوجه نحو مجال بعينه. وعلى ذلك، تطرح أسس هذه المجالات في مختلف مراحل التعليم العام في شتى أنحاء العالم. وليس هذا الأمر بجديد، فعلى مدى التاريخ المكتوب عبر آلاف السنين، كانت الحضارات تسعى دائما إلى تزويد أبنائها بالمعلومات في المجالات العامة المختلفة. كان ذلك في الحضارات القديمة، ثم في حضارات القرون الوسطى، وصولا إلى العصر الحديث. ويستمر الأمر كذلك الآن كقاعدة معرفية للتخصصات المختلفة. ويؤدي تعرف الإنسان على مختلف المجالات إلى توسع آفاق تفكيره وقدرته على إدراك ما حوله، تمهيدا لتوجهه نحو التخصص والعمل في مجال بعينه.
ويلاحظ أن الإنسان المتخصص في مجال بعينه يكتسب أسلوبا في التفكير يختلف عن الأساليب التي يكتسبها أقرانه في المجالات الأخرى. ونتيجة لذلك نرى أن مثل هذا الإنسان يتفوق في أسلوبه المكتسب على الآخرين بصرف النظر عن مستويات الذكاء، حيث غالبا ما يفوز تراكم الخبرة على تفوق الذكاء.
ونأتي إلى العقل الثاني بين العقول الخمسة، وهو "العقل التجميعي"، الذي يستطيع رؤية العناصر المهمة لقضية معينة ليرسم من خلالها صورة متكاملة لهذه القضية. فقضايا الحياة كثيرة ومتشعبة، ويساعد تجميع العناصر الرئيسة المكونة لها على فهمها، ليعزز بالتالي القدرة على التعامل معها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن "الدليل العالمي للابتكار GII" يجمع أكثر من "80 عنصرا" ليكون منها صورة عن قضية الابتكار في دولة من الدول، ليعمل على تقييمها ويحدد مكامن القوة ومواطن الضعف فيها.
أما العقل الثالث فهو "عقل الإبداع" الذي يتميز بالقدرة على رؤية أمور غير منظورة مباشرة في موضوع من الموضوعات. ويعبر عن ذلك عادة بالقول "إنه التفكير خارج الصندوق"، والصندوق هنا هو الموضوع وما يحتويه من عناصر، والتفكير الإبداعي المتعلق به، هو البحث عن عناصر أخرى ترتبط بهذا الموضوع وتؤثر فيه أو تتأثر به، لكنها لا تزال خارج ولم يحتوها الصندوق بعد. ويقدم هذا التفكير معطيات جديدة توسع دائرة الصندوق وتجعله صندوقا جديدا أغنى من الصندوق السابق.
ويبرز العقل الرابع بعد ذلك ليركز على "الاحترام" في العلاقة بين الناس. فاحترام الآخر، بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع أفكاره وأسلوب حياته، مدعاة للتعاون وتجنب الصراع، وبناء بيئة أمن وأمان بين الناس. ولا شك أن الأمن والأمان متطلبان رئيسان لحياة الإنسان وقدرته على العطاء. ونجد هذا الأمر في قاعدة "هرم ماسلو" الخاص باحتياجات الإنسان ونشاطه الذي قد نخصص مقالا له في المستقبل بمشيئة الله.
ونأتي أخيرا إلى العقل الخامس "عقل الالتزام الأخلاقي" وهو عقل يفترض أن يكون مرجعية لجميع العقول الأخرى. في هذا العقل التزام بالواجبات قبل الحقوق، والتركيز على العدل وتجنب الظلم، والاهتمام بالمساواة والابتعاد عن الانحياز. ولعلنا نذكر هنا قول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
هذه هي العقول الخمسة التي يطلب تنميتها من أجل المستقبل: العقل المدرب والقادر على العطاء في شتى مجالات الحياة، والعقل التجميعي في فهم قضايا الحياة وإدراك عناصرها، والعقل الإبداعي في إضافة المعارف الجديدة، وعقل الاحترام للتواصل مع الناس، ثم عقل الالتزام الأخلاقي من أجل استقامة الحياة وخير المجتمعات. كل هذه العقول يجب أن نحرص عليها في إطار التوجه نحو تعزيز تميز العقل الشامل الذي يجمعها في إطار متكامل. وربما كان هناك المزيد من جوانب الخير والعطاء في عقولنا لعلنا نعمل أيضا على الاهتمام بها وتفعيلها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي