سياسات التغير المناخي .. ومستقبل النفط
في الوقت الذي تهيمن فيه مفاوضات تغير المناخ على جدول أعمال صناع القرار في العالم، لا يزال الاعتقاد السائد في صناعة النفط هو أن هذه الإجراءات سوف تؤثر بقوة على الفحم، ستوجد فرصة للغاز الطبيعي للنمو، في حين أن النفط سوف يبقى كوقود للنقل لعقود مقبلة. بالتأكيد الفحم سوف يكون الهدف الأول لسياسات خفض انبعاثات الكربون، حيث إن إزالة الكربون من قطاع النقل أصعب من قطاع توليد الطاقة الكهربائية، ولكن لا ينبغي على صناعة النفط الاطمئنان. ذلك أن معايير الاقتصاد في استهلاك وقود السيارات – خصوصا في الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي والصين – على ما يبدو سيكون لها تأثير حقيقي على نمو الطلب على النفط في العقد المقبل، ما يجعل الكفاءة وليس بدائل الوقود العامل الرئيس في إزالة الكربون من قطاع النقل.
أما الوقود الحيوي، فغالبا ما ينظر إليه على أنه عنصر متواضع مكمل للنفط وليس بديلا، في حين أن السيارات الكهربائية لا تزال تعاني من ارتفاع أسعارها وقصر مداها، والمركبات التي تعمل بخلايا الوقود لا تزال أيضا تواجه تحديات كبيرة في البنية التحتية للتوزيع. ولكنّ عديدا من الحكومات تدرك أنه إذا ما أرادوا التصدي بجدية لم يعرف "ظاهرة التغير المناخي" يتوجب عليهم خفض الانبعاثات الناتجة عن وسائل النقل التي تعتمد على النفط.
من المستغرب أنه لا يتوافر في الأدبيات المنشورة عدد كافٍ من الدراسات التفصيلية التي تتطرق إلى التأثير المحتمل لسياسة المناخ على الطلب العالمي على النفط، لكن قبل نحو أسبوعين صدر عن الوكالة الدولية للطاقة تقرير يقدم معلومات مهمة في هذا الجانب. في إطار "سيناريو المساهمات المقررة على الصعيد الوطني" (Intended National Determined Contributions) - الذي يتضمن التعهدات التي تقدمها الدول طواعية لخفض الانبعاثات إلى قمة الأمم المتحدة لتغير المناخ التي سوف تعقد في باريس في شهر كانون الأول (ديسمبر) من هذا العام – تتوقع الوكالة أن يرتفع الطلب على النفط إلى 99 مليون برميل يوميا بحلول عام 2030، أي بزيادة 9 في المائة عن المستويات الحالية المقدرة بنحو 91 مليون برميل في اليوم، باستثناء الوقود الحيوي، حيث إن العالم سوف يتحول تدريجيا عن الوقود الأحفوري.
في حين أن السيناريو الأساسي "السياسات الجديدة" في توقعات وكالة الطاقة الدولية للعام الماضي يشير إلى ارتفاع الطلب على النفط إلى 101 مليون برميل في اليوم في عام 2030 و104 ملايين برميل في اليوم في 2040. وفي التقرير الجديد، تقدم الوكالة أيضا تصورا أكثر صرامة ضمن ما يعرف "سيناريو الجسر" أو (Bridge Scenario)، حيث تفترض أن العالم سوف يتحرك بسرعة للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري إلى 2 درجة مئوية. في هذا السيناريو، تتوقع الوكالة أن يصل الطلب العالمي إلى ذروته عند 95 مليون برميل في اليوم بحلول عام 2020.
تقدم أوروبا - الرائدة في مجال الاقتصاد في استهلاك الوقود - بعض الدروس على ما يمكن توقعه من هذه السياسات. في أواخر تسعينيات القرن الماضي، بدأ الطلب على النفط في الدول الأوروبية الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بالاستقرار عند 15.5 مليون برميل في اليوم، وبدأ بالتراجع بشكل مطرد منذ عام 2006. وعلى الرغم من تفاقم هذا الاتجاه من جراء الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008، إلا أن الطلب فيها استمر بالانخفاض حتى عندما انتعشت الاقتصادات، ووصل إلى نحو 13.5 مليون برميل في عام 2014. وعلى الرغم من أن الطلب على النفط في الولايات المتحدة شهد بعض القوة على المدى القصير، إلا أن نمطا مماثلا على المدى الطويل بدأ يترسخ الآن بعد قيام إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في عام 2009 - 2012 بتشديد متطلبات متوسط معايير الاقتصاد في استهلاك الوقود للمركبات "كافٍ"، ومضاعفة الكفاءة المستهدفة للسيارات الجديدة والشاحنات الخفيفة لتصل إلى 54.5 ميلا للجالون الواحد بحلول عام 2025. وبموجب هذه المعايير، إضافة إلى تلك الجديدة المزمعة للشاحنات الثقيلة وزيادة استخدام الوقود الحيوي، تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يبقى الطلب الأمريكي على النفط مستقرا حتى عام 2020 ومن ثم يبدأ بالانخفاض بمعدل 2 في المائة سنويا – متراجعا بنحو 1.6 مليون برميل في اليوم بحلول عام 2025 مقارنة بمستويات عام 2013. كانت جميع الافتراضات السابقة تشير إلى أن الدول النامية سوف تعوض أكثر من ركود استهلاك النفط في الدول المتقدمة، وهو ما يعكس التحول الواسع في نمو الطلب على النفط إلى آسيا. لكن تحول الصين نحو سياسات مناخ أكثر صرامة بدأ يقوض هذه الافتراضات. حسب "سيناريو المساهمات المقررة على الصعيد الوطني"، تتوقع الوكالة أن ينمو الطلب على النفط في الصين والهند مجتمعة بنحو 7.5 مليون برميل في اليوم بحلول عام 2030. ولكن البحوث التي أجريت أخيرا من قبل جامعة صينية تشير إلى أن هذا المستوى "المتوسط" من سياسات المناخ سيشهد وصول انبعاثات الكربون الصينية إلى ذروتها في عام 2040، أي بعد عشر سنوات من تعهدها بوصول الذروة "بحلول العام 2030"، أو حتى قبل ذلك. في إطار المسار المتسارع (accelerated) لسياسة الكربون للوصول إلى هذا الهدف، ترى الجامعة أن الطلب الصيني على النفط - وأنواع الوقود الأحفوري الأخرى – سوف يأخذ بالاستقرار بحلول عام 2030. الصين لديها معايير اقتصاد في استهلاك الوقود خاصة بها، وكذلك حدود على ملكية السيارة من خلال نظام الحصص والتراخيص، وفي الوقت نفسه تعمل على تعزيز السيارات الكهربائية والهجينة وخلايا وقود المركبات من خلال حوافز مالية.
بالفعل، إلى جانب التقدم التكنولوجي، نوه بعض المسؤولين في صناعة النفط إلى العواقب غير المتوقعة من سياسات المناخ وكفاءة الطاقة التي يمكن أن يكون لها تأثير كبير في الطلب على النفط في الفترة بين عامي 2040 و2050، ونتيجة لذلك النمو المتوقع في الطلب تحت أي سيناريو قد لا يتحقق. في حين أشار آخرون إلى احتمال تبلور موقف مختلف تجاه استهلاك النفط من قبل الأجيال المقبلة، الذي بدا بالفعل جليا في تقاسم السيارة واستخدام وسائل النقل العام، إضافة إلى ذلك الطلب على النفط في الهند قد لا ينمو بقدر ما كان متوقعا وقد يحدث اختراق في تكنولوجيا بطاريات السيارات الكهربائية.