الجمعيات الخيرية .. وسيطرة العشوائية
قادتني تجربة العمل التطوعي البريئة قبل سنوات في إحدى الجمعيات الخيرية إلى اكتشاف ما لم يكن على البال، وليس من سمع كمن رأى، ولهذا لم أعد أستغرب اليوم أن مئات الجمعيات الخيرية لدينا ولكنها بلا فاعلية تذكر، ما عدا جمعيات قليلة ومعروفة خرجت عن الخط الرتيب، وأثبتت لنا أن العمل المؤسسي الذي تقوده الكفاءات لا يمكن أن يفشل أبدا.
في تجربتي البسيطة والمتواضعة شاهدت كيف تدار الأمور "بالبركة"، ومعظم من يقود الجمعية موظفون في جهات أخرى، والأغرب أن اختيارهم لم يكن بناء على مؤهلات أو خبرات ميدانية وأكاديمية، بل تم اختيارهم لخدمة مصالح الرئيس بامتياز، والحق يقال: إن رئيس الجمعية كان رجلا ذكيا، استطاع أن يختارهم من عدة جهات حتى لا تتعطل أموره ومصالحه الخاصة، ولا أبالغ إذا قلت إنهم توزعوا على عدة جهات مهمة، منها البلدية، والمحكمة، والإمارة، والغرفة التجارية، والأوقاف، وتعليم البنات آنذاك.
وقد شاهدت هؤلاء الموظفين يعملون ساعات محدودة في المساء، ويتقاضون رواتب عالية جدا استنزفت دخل الجمعية. أما رئيس الجمعية فلم يكن سوى ضيف شرف لا أشاهده إلا أياما قليلة، يسلم علينا "ببشته الفاخر"، ويوقع بعض الشيكات ثم يذهب، والرجل معذور بحكم كثرة مشاغله التي تتوزع بين عمله الرسمي في قطاع التعليم، وجهوده في مجال الدعوة، وإمامة مسجد الحي، وفي آخر القائمة تأتي رئاسة الجمعية.
هذا الواقع المتردي الذي عايشته ورأيته بنفسي، لم يكن أمرا نادرا، بل هو أمر سائد في معظم الجمعيات في ظل غياب الرقابة من قبل "وزارة الشؤون الاجتماعية"، ما جعل معظم الجمعيات تتحول إلى مجالس خاصة، تتقاسم فيها المصالح، والوجاهات الاجتماعية، أما المحتاجون الذين أنشئت من أجلهم هذه الجمعيات، فليس لهم سوى بضع "كراتين" من التوزيع العشوائي كل شهر لمن يسبق أولا، أو يعرف أحد المسؤولين في الجمعية!
من يعرف "الجمعيات الخيرية" حقيقة المعرفة يدرك أن أغلبها بلا كوادر متفرغة ومؤهلة، ولا حسابات منضبطة، ولا استثمارات وموارد مالية تدار بطريقة مهنية، ولا باحثين وباحثات يستطيعون تقديم نماذج إيجابية للعمل الخيري الإيجابي، ولهذا هي أقرب إلى مراكز التوزيع العشوائي، وليست إلى المؤسسات الخيرية التي تدرك أدبيات العمل الخيري.
قد أكون اليوم أكثر تفاؤلا بالحراك الذي تعيشه وزارة الشؤون الاجتماعية والمبادرات الكبيرة التي أطلقها الوزير النشط الدكتور ماجد القصبي، وأتمنى أن تكون الأولوية لإعادة تقييم أداء الجمعيات الخيرية، وتدشين آليات مهنية جديدة لمستقبل العمل الخيري، نقضي بموجبها على هذا الأداء العشوائي، ونؤسس لمرحلة من التنافس، والمهنية، وإدارة الكفاءات، فالزمن لا ينتظر، والمجتمع متعطش لمزيد من مبادرات التميز.