ازدياد التفاوت يفرض تحديات
هناك طبقة صغيرة جدا في نسبتها إلى مجموع البشر، تشكل نحو 1 في المائة من المجتمعات، لكنها مؤثرة جدا: الطبقة البالغة الثراء. والدلائل تشير إلى تراكم ثروات العالم في أيدي عدد أقل من الأثرياء، بينما تتسع الفروقات في الدخل والثروة على مستوى العالم. ويرى كثيرون من اجتماعيين وغيرهم أن هذا الوضع يتسبب أو قد يتسبب في اندلاع أحداث واضطرابات اجتماعية في العالم.
ظهر العام الماضي عالم الاقتصاد الفرنسي توماس بيكتي بكتابه "الرأسمالية في القرن الـ21" الذي هز الأوساط البحثية والأكاديمية ليس في المجال الاقتصادي فقط، بل في عامة العلوم الاجتماعية، بل تجاوز ذلك إلى أوساط أصحاب القرار السياسي في دول الغرب على الأقل. الكتاب محاولة ثورية غير مسبوقة في المنهج لفهم التطور والتوجه على المدى البعيد لمسار الرأسمالية عامة وفروق الدخل والثروة خاصة.
كان كتاب بكيني منطلق أو بذرة الاهتمام للموضوع في وقتنا هذا أعني مع نهاية القرن الماضي وبدايات القرن الـ21 الذي شهد ثورات تقنية وتبعاتها الاقتصادية.
ربما كان أهم كتابين تناولا الموضوع هذا العام، كتاب الاقتصادي البريطاني السير آنثوني اتكنسون Sir Anthony Atkinson "التفاوت (التحيز): ماذا يمكن فعله؟" Inequality: What Can be Done? والاقتصادي الفرنسي فرانسكوز بورقون François Bourguignon عولمة التفاوت The Globalization of Inequality.
والمعنى في هذا السياق التفاوت في توزيع الدخول والثروات تفاوتا ينم عن شيء من التحيز والظلم. وينبغي التنبيه على أن البعض ترجمها ترجمة حرفية بعبارة فقد المساواة، وهي ترجمة غير دقيقة.
بين الكتابين فروق في التناول. كتاب بورقون قدم توضيحا منهجيا للتوجهات العالمية والمحلية للثراء وفروق الدخل وتراكم الثروة، بينما ركز اتكنسون على ما يحدث في مجموعة ما يسمى الدول المتقدمة، وخاصة بلاده المملكة المتحدة.
جاء التأكيد في الكتابين على ما بينه بكيني من أن التفاوت آخذ في الاتساع. فبعد فترة من نزول ملحوظ في الفروق أو خلال القرن الـ20، الوضع بدأ يأخذ منحى الصعود خلال السنوات الـ30 الماضية على المستوى العالمي، وهذا موثق على مستوى الدول المتقدمة، حيث تتوفر البيانات التي من الممكن بناء التفسيرات عليها.
تلك الدول ليست سواء، حيث تتفاوت الدول في قدر التفاوت الدخلي. فدول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة شهدت تصاعدا في التفاوت أكثر من دول أخرى كاليابان وكندا وألمانيا.
معدلات العائد على رأس المال يتجاوز معدلات النمو الاقتصادي. هذا يعني تكريس أو زيادة التفاوت في الثروة. نسبة الثروة إلى الدخل الوطني أو القومي في نمو قوي منذ الثلث الأخير من القرن الماضي. وتفسير ذلك إلى حد كبير عائد إلى تضخم قيمة قائمة من الأصول كالعقار والأسهم.
الوضع في مجموعات الدول النامية والصاعدة أكثر تعقيدا. تصاعدت الفروق في الدول الأكثر نموا اقتصاديا كالصين والهند. وأتوقع أن ذلك ينطبق على السعودية وبقية دول مجلس التعاون بصفة عامة.
ماذا بشأن الوحدات العائلية؟ أي على مستوى الفروق العائلية. يلحظ أن الفجوة اتسعت في دول كثيرة، لكنها ليست كذلك على المستوى العالمي. ويعود ذلك بدرجة كبيرة إلى التنوع الكبير في متوسطات الدخل في العالم، سواء على مستوى الدول المتقدمة أو النامية. خلال أواخر القرن الـ19 ومطلع القرن الـ20. ومن جهة أخرى، يلحظ انخفاض في نسبة أو حصة العالم من شدة الفقر (تعرف بأنها أقل من دولار وربع باليوم مقومة بأسعار 2005) من نحو ثلث سكان العالم عام 1990 إلى أقل من سدس سكان العالم عام 2010.
ما سبب تلك التغيرات في تصاعد التفاوت؟ هناك مجموعة من العوامل الاقتصادية المتسمة بالتعقيد، التي تدفع إلى مزيد من التفاوت. العولمة والتغيرات التقنية وتصاعد الأسواق المهيمنة والتحرير أو الليبرالية المالية وزيادة ملحوظة في رواتب ومستحقات كبار التنفيذيين وزيادة ملحوظة في الاستقطاع من الثروة الإيجاري rent extraction وأقرب معنى له الضغط نحو زيادة نصيب الأفراد (الضاغطين) من الثروة بمعزل عن زيادة حجمها أو نموها.
كلا المؤلفين يدعو إلى عمل تجاه التفاوت، هناك إشارة إلى أن بعضا يناقشون أن ما يهم هو المساواة أو العدالة في الفرص. ويستند ذلك إلى أن بعض النجاح الشخصي مرده حظ، ومن ثم فالبنية المؤدية للحصول على مال مثلا، كثيرا ما تكون ولو جزئيا نتيجة ظروف أتت من عامل الحظ. ومن ثم فدور الحكومات التأكد من العدالة في الفرص.
طرحت نقاط كثيرة للتخفيف من حدة التفاوت. ولعلي أناقشها مستقبلا.