رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


السعادة .. العلم الإنساني

رمضانيات - 5
.. لا أدري إن كان هذا المقال سيظهر، على الأقل وأنا أكتبه، فقد جاء خبر تفجير مسجد الإمام الصادق في الكويت.. وتبخر كل مزاج السعادة الذي كنت سأكتب به المقال. على أني أعرف أن موعدا تأخرت عنه، ويجب أن ألتزم به.. والالتزام سعادة.
سأقول لكم اليوم إن السعادة بالعلم.
فلنبدأ بأول فتوحات العلم الحديث، بعد إطلالة نيوتن على عالم جديد كليا بالنسبة له، وقد وضعه الله بضمير الكون من أول الخلق، وأدرك أنه أمام مشارف علمية عظيمة لا يمكن لخياله أن يدركها، فقال: أشعر أمام العلم كطفل صغير، يلعب بالصدفات على شاطئ محيط لا نهاية له.
ولكن كيف كانت الحياة وقتها، أيام نيوتين؟
كانت الحياة بائسة جدا في بريطانيا، بل في كل أوروبا. كان العمر ينقصف سريعا، فمعدل الحياة يتراوح عند الثلاثين عاما. والحياة قاسية شظفة، الموت في كل زاوية وفي كل مكان. وكان الناس في سوادهم الأعظم من الأميين، ولم يروا كتابا واحدا في حياتهم. ومعظمهم الغالب لم يعرفوا صفا دراسيا في مدرسة، كما أن كل معرفتهم في سياحة الأماكن لا يتعدى أميالا معدودة عن مساقط رؤوسهم. والجوع يحوم على الحقول والقرى، والمرض، والهزال. فوق معدل أعمار الناس القصيرة، فقد كانوا يشهدون أحزانا متواصلة في موت أطفالهم خصوصا الرضع.
ولكن أولئك الأطفال من العلماء الذين يلعبون على شواطئ محيط العالم، غيروا العالم، ونقلوه لفسوحات أوسع وأحسن وأجمل. وتحقق انتقال عظيم في البشرية. حركت آلة نيوتن العقلية ونظرياته في الحركة بالتتابع إلى المحرك البخاري. والمحرك البخاري حقق التنقل بالمساحات الكبيرة وبالوقت الأسرع، وربما كان هذا من أروع ما حصل للإنسان في ذلك الوقت وبعده؛ بفضل أولئك الأطفال من العلماء الذين يتراكضون بشواطئ المحيطات. هذا التنقل حفز تحرك المكتشفات والاختراعات، وبنيت المصانع، ونمت التجارة والاقتصاد بحركة عمت كل القارة الأوروبية، وتعدتها في الاكتشافات البحرية، فانتقلت التجارة لكل جزيرة أو ساحل وصل إليه الأوروبيون بمحركات سفنهم البخارية التي جعلت قَطْعَ المحيطات وأعالي البحار ممكنا.
ولكن العلم ينمو بقوة بغض النظر عن توجه استخداماته، فلم يتوسط القرن التاسع عشر، إلا وكانت قد تحققت آلاف الاكتشافات والاختراعات المبهرة، التي جعلت رئيس مكتب براءات الاختراعات في أمريكا يقول وقتها: "لا أظن أن اختراعات جديدة ستأتي.. فقد تم اختراع كل شيء!". تفتحت عيون الناس على عوالم جديدة أجمل وأكثر إشراقا، فتقدم الطب، وتطورت صناعات الأدوية بتضاعف مذهل، فقلت الأمراض، وانتشر العلم بإقامة المدارس والمعاهد والجامعات. وانتشر بهوس عجيب حب القراءة في العلوم، والرحلات الاكتشافية. ثم قلت المعارك، وحروب الثأر، واختلاف الدين التي كانت رائجة جدا أيام نيوتن. فالعلم فعلا نور، ينتشر في العقل، فينعكس على حامله بمدى إنساني أوسع، وميل للسلام والقبول، والتحمس للعلم المحايد الذي يترفع عن مساقط الخلاف والكراهية والاحتراب.
جاء القرن الـ20 ومعه أفضل ما يمكن أن يحصل للإنسان من موجبات السعادة، ما جعل أكبر نكتة هي ما قاله رئيس مكتب براءات الاختراع في أمريكا في القرن الـ19. فطال عمر الإنسان بمعدل 70 عاما، وجففت منابع أكثر الأمراض سريانا كالطاعون والسل والملاريا والبلهارسيا والإنفلونزا التي كانت تفتك بالملايين. وكان عالم المضادات الحيوية أكبر عتبة رفعت العملية الصحية ومكافحة الالتهابات، ثم حمل القرن لنا عالم الإلكترونيات والنت وتفكيك الذرة، ثم قادت هذه العلوم لفك رموز الشفرة الجينية الإنسانية، وعرفنا علما فوضويا منظما هو علم الكوانتم، الذي فتح وسيفتح آفاقا أوسع.
وما زال العلماء الأطفال يتراكضون على الشاطئ الذي لعب به الطفل نيوتن.
شقينا، بالجهل.. والجهل الأكبر ليس بالأمية، بل الانغلاق عن الاتساع الإنساني ومعنى قيمة الحياة الإنسانية، فمهما دخلت معلومات في عقل منغلق تحولت إلى سم الكراهية والحقد وتفجير يسقيه للأبرياء.
استخدم العلم كي تكون سعيدا، ولن تكون سعيدا إن لم يعش الآخرون سعداء.. ولن يكونوا سعداء إن لم يكونوا آمنين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي