السعادة .. لغتي
رمضانيات - 4
.. هذه اللغة العربية المعجزة في كل شيء، سأختار اليوم فقط جانبا واحدا من جوانب كثيرة من عظمة لغتكم العربية، بعض الشعر.
إني أجد نفسي سعيدا ومحظوظا أني عربي أتكلم العربية، ولا أظن إلا أنكم تشاركونني السعادة ذاتها والفخر .. إن لم يكن أكثر.
من يتبحروا بعلم اللسانيات يجدوا- قطعا- أن اللغة العربية توافر لها من المميزات والخصائص ومظان الإبداع أكثر من غيرها من أخواتها الساميات. ولعلي لا أتعدى إن قلت إنها تقف على قمة لغات العالم.. كثيرون قالوا ذلك، وليسوا من أهلها، واسأل ليركه وجوته الألمانيين وبرناردشو الإيرلندي، والهندي، والياباني.. والدلائل كثر.
لماذا أقول ذلك؟
لأن اللغة العربية - على الأقل من أخواتها اللغات السامية- أخذت أخيرهن من الألفاظ والمصطلحات. وهي أوسعهن مفردات، وأكثرهن مترادفات، وألينهن حرفا، وأطوعهن أسلوبا، وأسهلهن مخرجا، وأعذبهن نطقا، وأرقّهن نغما، وأصفاهن جرسا.
واللفظة العربية تمتاز عن غيرها من ألفاظ اللغات الأخرى بروابط الكلمات والجمل، وأدوات الفصل والوصل. في اللغة العربية معنيان؛ المعنى المباشر: وهو المعنى الذي وضع لمفهوم اللفظ منذ تأسس ذاك اللفظ. والمعنى المجازي: ويعني تجاوز المادة الحقيقية المباشرة، ورفع شراع الخيال لإبحار معنى حقيقي مقابل. ونشط كثيرون من محبّي اللغة العربية في العصور الحديثة من المتخصصين بها ومن علوم أخرى إنسانية، وعلوم تطبيقية، وفلسفية فأدخلوا ظاهرة التجسيد على اللفظة العربية، فحفزت عالم طاقتها، وفجرت كوامن هذه الطاقة المختزنة فخلقت مشاهد متعددة من الصور، وكونت دنياوات من الأحاسيس- نعم جمع دنيا، ولم لا تستخدم ما دامت اللغة العربية تهبني إياها صحيحة ومعبرة؟- وهذا يدل بسطوع على مرونة اللغة العربية، واستيعابها واستجابتها لتبدلات الحياة بكل زمان.. يعني أن لغتنا العربية كائن حي موفور النشاط، وهي مخلوق نام وخاضع لنواميس التطور، وقوانين الارتقاء.
انظر إلى جمال اللغة العربية في المقطع الصوتي ببيت للبحتري، ستعجب من صداه الترددي الصوتي، ويصف به تموج الشمس على حيطان القصر الفاره- أحد قصور الخلافة ببغداد- وشبّهه بأمواج البحر كتجسيم مشهدي مبتكر وبديع في الكلمة:
وكأن حيطان الزجاج بجوه
لجج يمجن على جنوب سواحل
انظروا هذا الأجيج يحدثه حرف الجيم مجسدا في خيالك صوت ترادف الأمواج على السواحل. وبالمناسبة لاحظوا شيئا في لغتكم العربية الإبداعية أن كل الأفعال الرباعية المضعفة مثل: لعلع، زعزع، زلزل، دمدم، وجلجل هي أصوات تجسمت كلمات مقاطع وكلمات، وتضعيفها يعني تواتر الصوات وتردده.
وتلاحظون أن لغتكم المرنة المطواعة النامية الراقية تتغير جماليا وإبداعيا وصورا في الشعر حسب الجغرافيا والحالة والحضارة التي يجول بها أصحاب العربية.
لا شك أن رواد الهجرة العربية هم اللبنانيون، وأكثرهم من المسيحيين، وللبنان نصيب كبير من البعثات الإرسالية خذ مثلا الهجرة لفرنسا ومستعمراتها هي بداية نتيجة تعهد لويس الرابع عشر بتعليم أولاد الموارنة- طائفة مسيحية بلبنان- في المدرسة اليسوعية بباريس مجانا. وهجرتهم لأمريكا لقوة أثر إلإرساليات الأمريكية الميدانية التعليمية وتوجت بالجامعة الأمريكية ببيروت التي أسستها إرسالية بروتستانية- أكثر الأمريكيين بروتستان- ثم تبعتها جامعة القديس يوسف اليسوعية ببيروت أيضا.
تغير العرب اللبنانيون مزاجا وعاطفة وعقلا مع المجتمعات التي هاجروا إليها في أصقاع العالم خصوصا بالأمريكتين الجنوبية والشمالية، وسأعطيكم أبياتا قبل أن أهنئكم وأهنئ نفسي على حظنا السعيد بلغتنا العربية وشساعة قابلتها للتغير الجمالي للشاعر العربي اللبناني المهاجر إيليا أبو ماضي، يخاطب وطنه لبنان:
شردت أهلـك النوائب في الأرضِ
وكانـوا كأنـجم الـجـوزاء
وإذا المرء ضاق بالعيش ذرعا
ركب الموت في سبيل البقاء