الإنسان الظالم الجهول
في أول ليلة من ليالي رمضان قرأ الإمام في صلاة التراويح "قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك"، فتداعت إلى ذهني حال سماع الآية الكريمة صور عدة مرتبطة بواقع الحال الذي يعيشه العالم في عصر يوصف بعصر التقدم، والاكتشافات الحديثة، ومبادئ ومنظمات حقوق الإنسان، والتقدم التقني الهائل الذي حقق للإنسان الكثير من الرفاهية، لكن ليس كل إنسان، بل إن من البشر من يعيش في مرتبة أدنى من الآدمية.
كوكب الأرض يعيش عليه أكثر من سبعة مليارات إنسان، لكن التفاوت في معيشتهم كبير؛ إذ إن منهم من حرم من خيرات بلاده، في حين يستمتع بها الغريب. وهذا الوضع يدعونا إلى تفسير أسباب هذا الظلم الذي يمارسه الإنسان في حق أخيه الإنسان، ويحرمه من حقوقه، وينزله منزلة لا تليق به كبشر. تأملت في هذا الوضع، وتساءلت: هل الإنسان يمارس الظلم منذ أن وجد على الأرض؟ فوجدت الإجابة في قوله تعالى "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا"، كما أن في قصة ابني آدم حين قتل أحدهما الآخر شاهدا على أن الفساد والإفساد في الأرض لن ينتهي، بل سيستمر الإنسان يمارسه، كل ذلك محفز في الحسد، والغيرة، والجشع، ونزعة العدوان التي تقود الفرد لممارسة الظلم والاعتداء على الآخر متى ما افتقد مقومات الإنسانية.
هل الظلم سجية في الإنسان يمارسه متى ما كانت الظروف مواتية لذلك؟ ومتى تحرر من الموانع التي تحول دون ممارسته؟ واقع الحال يقول ذلك، خاصة إذا توافرت القوة لديه، سواء كان فردا أم جماعة أم دولة، وهذا يتضح من سلوك الأفراد؛ إذ نرى قائد المجموعة يبسط سيطرته متى ما فقد النظام، بل بوجود النظام يمارس البطش والعنف في حقهم، كما أن غياب المحاسبة والرقابة يزيد من ممارسة الظلم في حق الآخرين. أما على المستوى الجماعي أو الأممي، فالصورة واضحة، حيث صراع الأقوام والأمم لا حدود له، وقد سجل التاريخ حروبا دامية بين القبائل على المراعي وموارد المياه، ولا يزال الوضع قائما في بعض المجتمعات، كما في إفريقيا، إلا أن الظلم والجبروت والطغيان تحول من صورة بدائية إلى صور متقدمة في البطش والتنكيل، وذلك باستخدام التقنيات الحديثة ذات التدمير الشامل والسريع، بدلا من الأدوات البدائية.
ظُلْمُ الإنسان أخاه الإنسان المتمثل في صراع الأمم أصبح يؤطر بقرارات أممية، كما في الفصل السابع من نظام هيئة الأمم الذي يصدر عن مجلس الأمن ليوظف في خدمة الدول الفاعلة في المجلس، المالكة حق النقض، وهذا بحد ذاته يمثل أبشع صورة للظلم، فالعالم بأكمله تتحكم في مصيره خمس دول، توجه قرارات المجلس بالشكل الذي يخدم مصالحها الاقتصادية والسياسية والجيوسياسية.
في عصرنا الحاضر، أصدر مجلس الأمن قرارات تم بموجبها أبشع صور الظلم، كما في قراراته بحق العراق، حين تمت محاصرته اقتصاديا، ومن ثم غزوه عام 2003، ونعلم ماذا ترتب من مآسٍ، وقتل، وأمراض بفعل استخدام أسلحة محرمة دوليا.
الإنسان مع ما بلغه من مستوى متقدم في كثير من المعارف يبقى جاهلا لمآلات وآثار تصرفاته وأفعاله، فخلال نشوة الشعور بالقوة يقدم على تصرفات ظاهرها فيه فوائد ومصالح، لكن على المدى البعيد يكون ضررها أكثر من نفعها، ولا أدل على ذلك من الأسلحة النووية المكدسة في مخازنها، التي أصبحت عملية صيانتها والمحافظة على أمنها تكلف خزائن الدول المنتجة لها أموالا طائلة. في أمريكا وحدها يوجد سبعة آلاف رأس نووية، كلفت أموالا طائلة، ولا تزال تكلف الكثير، في حين يواجه التأمين الطبي كثيرا من الصعوبات، ما حرم كثيرا من الأمريكيين من الخدمات الطبية المناسبة.
ظلم وجهل الإنسان بمآلات ونتائج التصرفات امتد إلى البيئة؛ إذ بالصناعات الملوثة وسوء التعامل مع البيئة في غاباتها، ومياهها تلوثت ودمرت، حتى إن بعضها لم يعد مناسبا لحياة الإنسان السوية، ما انعكس أثره على حياة الإنسان وصحته، ولذا طفق يبحث عن حلول لما كسبته يداه، وما ثقب الأوزون إلا أحد مظاهر الظلم والجهل.