رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


قضية التنمية .. مسؤولية اجتماعية

يقال في التنمية، في دولة من الدول، إنها ترتبط بـ"النمو الاقتصادي" أي مدى تزايد قيمة الإنتاج الذي تقدمه خلال عام واحد. فإذا كان إنتاج الدولة هذا العام أكبر من إنتاجها في العام الماضي، تكون قد حققت نموا إيجابيا. وتقاس قيمة الإنتاج من خلال ما يعرف بـ "الناتج الإجمالي المحلي للدولة GDP"، أي القيمة الإجمالية لكل ما ينتج فيها سواء كان مصدر هذه القيمة "جهد الإنسان"، أو كان مصدرها معطيات "الموارد الطبيعية". وغالبا ما يؤخذ متوسط النمو السنوي لهذا الناتج، على مدى عدة سنوات، من أجل الدولة المعنية، كمؤشر على مدى التنمية الاقتصادية فيها.
وهناك من يقول، إن نمو قيمة الناتج الإجمالي المحلي لا يعكس حالة التنمية في المجتمع. فلا يكفي أن يكون النمو إيجابيا، بل لا بد أن يكون موزعا أيضا على شرائح المجتمع كي يكون للجميع نصيب فيه. وجوهر الأمر هنا هو أن يكون هناك دور للجميع في "تحقيق النمو"، كي يكون لهم، بالتالي، دور أيضا في "الاستفادة منه".
وهنا تبرز مسألة العمالة والحرص على إسهام الجميع في تحقيق النمو المنشود. ولا شك أن مبدأ "وظيفتك- بعثتك" الذي أطلق أخيرا يسهم في هذا الأمر، في إطار تفعيل دور المبتعثين في العمل والإسهام في التنمية بعد عودتهم من الابتعاث. وحبذا أن يأخذ هذا المبدأ طريقه إلى التوسع ليشمل "وظيفتك-شهادتك" بحيث يكون هناك ارتباط شامل بين التعليم والتوظيف سواء كان التعليم محليا أو كان عن طريق الابتعاث الخارجي. ولا شك أن هذا الأمر "مسؤولية اجتماعية" ينبغي التخطيط لها والعمل على تحقيقها على أرض الواقع، ليس على مستوى الهيئات الحكومية فقط، بل على مستوى المؤسسات والشركات الخاصة، والمجتمع بأسره أيضا.
وعلى أساس إسهام الجميع في التنمية واستفادتهم منها، هناك مؤشرات تهتم بفاعلية عمل الإنسان وكفاءته. وتشمل هذه المؤشرات مستوى إنتاجية الفرد في الصناعات والخدمات المختلفة، ومتوسط ذلك على مستوى الدولة؛ كما تتضمن أيضا مستوى الأجور في هذه الصناعات والخدمات، والمتوسط المرتبط بها. فكلما ازدادت إنتاجية الفرد ارتفعت فاعليته، وكلما انخفضت الأجور المقابلة لذلك ازدادت كفاءته. وقد أعطى هذا الأمر دولا مثل الصين والهند فرصا كبيرة لرفع معدلات النمو الاقتصادي فيها، ففي هذه الفاعلية والكفاءة جاذبية للمستثمرين من أنحاء العالم المختلفة.
وفي هذا المجال هناك تجارب تستحق الاهتمام، منها تجربة "ماليزيا" الدولة الإسلامية التي حققت نموا متميزا. ففي مطلع التسعينيات من القرن الميلادي الماضي، أعلنت ماليزيا، على لسان رئيس وزرائها في ذلك الحين "مهاتير محمد"، عن توجهها الاقتصادي نحو النمو بسرعة بهدف الوصول إلى مستوى الدول المتقدمة خلال ثلاثة عقود، وقد عرف هذا التوجه "بخطة عام 2020"، وهو العام الهدف للوصول إلى المأمول. وقد حققت ماليزيا في العقد الأول من الفترة المحددة النمو الذي تطمح إليه، بل أكثر. وانتقلت بذلك من معدل دولي منخفض للأجور إلى معدل دولي متوسط. وقد أدى هذا الارتفاع في الأجور إلى انخفاض كفاءة العمل في عيون المستثمرين، حيث تقلص الاستثمار عن ذي قبل، وانخفض بذلك معدل النمو.
ويقول وزير الدولة الماليزي المسؤول عن التنمية "إدريس جالا"، إنه كان لا بد لماليزيا من العمل على إعادة رفع معدل النمو حتى مع ارتفاع مستوى الأجور عن السابق. وبعد دراسة الأمر والاستفادة من أصحاب الخبرة، ومن تجارب الدول الأخرى، تم وضع خطط للنمو، في إطار المستوى الجديد للأجور. وقد استندت هذه الخطط إلى عاملين رئيسين. أولهما هو "التركيز" على صناعات بعينها والتميز في تأهيل المتخصصين وتفعيل المهارات والخبرات فيها؛ وثانيهما هو الاهتمام بتأمين "بيئة عمل مناسبة" ترفع مستوى فاعلية الأداء وجودته، وتجذب الاستثمار والمستثمرين.
وكما عانت ماليزيا من جذب الاستثمارات والنمو مع ارتفاع الأجور إلى المستوى المتوسط، عانت الدول المتقدمة من رحيل كثير من الاستثمارات فيها إلى بلدان أخرى، بسبب وصول الأجور فيها إلى معدلات مرتفعة. ومن الحلول المطروحة لهذا الأمر استغلال الخبرات التقنية المتميزة لهذه الدول، والتوجه بشكل أكبر نحو الإبداع والابتكار وتقديم منتجات وخدمات جديدة ومتجددة تعطي قيمة أكبر تزيد من قيمة إنتاجية الفرد فيها، وتبرر تلقيه لأجر مرتفع مع المقارنة بأجور الأفراد في الدول الأخرى.
ما سبق عن النمو يمثل الجانب الاقتصادي من التنمية، لكن هذا الجانب ليس كافيا، فهناك جوانب أخرى يرى كثيرون ضرورة أخذها في الاعتبار. ومن أمثلة ذلك ما ورد عن دولة "بوتان" الدولة الصغيرة الواقعة على الجهة الشرقية من جبال الهملايا على ارتفاع يزيد على "سبعة آلاف متر فوق سطح البحر"، التي يقل عدد سكانها عن مليون نسمة.
طرحت هذه الدولة مبدأ "السعادة" كهدف وليس مبدأ "النمو الاقتصادي فقط"، إلا بمقدار ما يحققه من سعادة. وقد جذب هذا المبدأ الكثيرين من قادة العالم، حتى بات له دليل دولي يعرف بدليل "إجمالي السعادة الوطنية GNH". ويتضمن هذا الدليل مجموعات من المؤشرات التي تشمل عشرة عوامل رئيسة تهتم، بالبيئة، والتعليم، والصحة، والتوافق الثقافي، واستخدام الزمن، والراحة النفسية، والنشاط المجتمعي، إلى جانب مستوى المعيشة. وقد يكون لنا عودة إلى هذا الأمر في مقال قادم في المستقبل.
ولا بد من الإشارة، إضافة إلى ما سبق، إلى توجهات الأمم المتحدة بشأن التنمية المستدامة، حتى عام 2030، التي طرحت في قمة "ريو دي جانيرو" عام 2012، وأقرت من قبل الجمعية العامة عام 2014. فقد اهتمت هذه التوجهات بالنواحي الاجتماعية والبيئية إلى جانب الناحية الاقتصادية. ولعلنا نطرح هذا الأمر في المستقبل أيضا.
لا شك أن للتنمية الاقتصادية شأنا كبيرا في حياة الإنسان، لكن اعتبارها الهدف الأول والأخير في الحياة يقلل حتى من شأنها، فهي يجب أن تكون في خدمة التنمية المعرفية والتنمية الاجتماعية، ويجب ألا تتعارض من القضايا الإنسانية والبيئية. وطالما أن هذا الأمر يرتبط بالمجتمع ككل، فهو يقع على عاتق المجتمع بأسره أيضا. فكل فرد مسؤول في إطار ذاته، وكذلك كل هيئة حكومية، وكل مؤسسة أو شركة خاصة. إنها مسؤولية اجتماعية على الجميع، ومن أجل الجميع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي