الأندلس ما أشبه الليلة بالبارحة
تخيلت نفسي في منطاد وأنظر من علو شاهق إلى العالم العربي والإسلامي، ليست نظرة بصرية تستهدف التعرف على الحدود المتعرجة والمتداخلة، ولا الكيانات الصغيرة التي أحدثها الاحتلال الغربي، أو بالأدق النصراني، فهذه الحدود وما أحدثته من مشكلات وخلافات بين الجيران أصبحت أخبار المعارك البينية بسببها معروفة للجميع، حتى إن المناوشات العسكرية والخلافات السياسية من أبرز ما ترتب عليها، بل إن المناكفات في الاجتماعات الرسمية والحملات الإعلامية تهدأ فترة لتعود على السطح مرة أخرى.
النظرة التي أرغب فيها هي نظرة ذهنية أستجلي من خلالها الأسباب والظروف التي أسهمت وتسهم فيما وصل إليه حال الأمة من تمزق وخلافات لا تنتهي عند حد، وكلما طويت صفحة فتحت صفحة أخرى أعتى وأمر من سابقتها على النفوس الحريصة على وحدة الأمة ومصالحها الكبرى. لست بصدد استعراض الواقع المؤلم، فالصغير قبل الكبير يعلمه، لكن الواقع لم يحدث من فراغ، خاصة الشروخ المؤلمة التي تميز واقع الأمة.
يحدثنا تاريخ أمتنا في أجزائه المظلمة عن أمراء الطوائف، وكيف أن الفرنجة أو النصارى وجدوا في بعض أمراء الولايات مطايا، يستخدمون بعضهم ليكونوا رأس حربة في الحرب على دولة الأندلس بهدف إسقاطها، وتمزيق دولة الإسلام في أوروبا، وهذا ما حدث بالفعل بتخطيط ودهاء مشحون بعاطفة دينية، هَمُّها الأساس القضاء على الوجود الإسلامي في ذلك الجزء من العالم، وهذا ما حدث بالفعل، حيث سقطت الأندلس، واختفى الوجود الإسلامي إما بالقتل وإما التهجير القسري، أو الإجبار على تغيير الديانة، والسبب الرئيس هو الأفراد الذين سخروا أنفسهم لخدمة الحملة النصرانية على المسلمين، لتتحول الإمارات الإسلامية إلى أعداء، كل منها يسعى إلى كسب رضا النصارى والاحتماء بحماهم، حتى خسر جميع المسلمين، وانطبق عليهم المثل القائل "أُكلت يوم أُكِلَ الثور الأبيض"، لينتهي الوجود الإسلامي هناك.
هل يعيد التاريخ نفسه هذه الأيام في أمتنا، لا أحد يمكنه إنكار الواقع، والصورة شبيهة بما حدث قبل قرون، ولعل نظرة سريعة على خريطة العالم العربي والإسلامي تستدعي صورة ما حدث في الأندلس من نزاع واختلاف بين الإخوة الأعداء. ما يعيشه عالمنا العربي والإسلامي من حروب ونزاعات بينية، أو من نزاعات وحروب داخلية يؤكد أن أسبابا وعوامل مشتركة بين إنسان الأمس، الذي عاش في الأندلس، وبسببه ضاعت الأندلس، وبين إنسان اليوم الذي تدور رحى الحرب والفتن بسببه.
ترى ما الأسباب التي تجعل التاريخ يعيد نفسه لنعيش الظروف نفسها، ونرجو الله ألا ننتهي إلى النهايات نفسها والمآلات التي انتهى إليها أسلافنا؟ في ظني أن سوء الإدارة والقصور الواضح في ذلك، إضافة إلى النزعة النرجسية التي تجعل الفرد يتقوقع على ذاته، لاهثا لإشباع غرائزها، من السهل أن تحوله إلى أداة طيعة لمن يملك القوة، وفي هذا العصر الغرب هو صاحبها، ولذا نجد الكثير من زعماء المسلمين يتسابقون لإرضائه وتحقيق مبتغاه.
النزعة النرجسية الساعية إلى الزعامة والرئاسة وجمع الثروة وتكديسها حتى لو كان على حساب قوت الناس وحياتهم الكريمة، تجعل من هؤلاء غير قادرين على التفكير بموضوعية وحسن تدبير، حتى إنهم يتحولون إلى أعداء أنفسهم دون أن يدركوا ذلك، ولذا وبدافع قوي من مقومات النرجسية والجشع الذي لا حدود له، لا يمكنهم الممانعة، أو إعطاء الذات فرصة التأمل في الواقع وإدراكه على حقيقته، وليس كما تصور له نفسه أو يصوره له أصحاب المصالح.
خلال السنوات الماضية، شهدنا ماذا فعلت نرجسية القذافي بنفسه وعائلته وبليبيا، ونشهد ماذا تفعل نرجسية وشوفينية بشار وحكام العراق المغذاة بالطائفية من تدمير وظلم وسفك دماء، وهذا ما يفعله صالح والحوثي في اليمن.
المصالح الضيقة فردية أو عائلية أو وطنية أو قومية هي ما تجعل الاحتماء بالآخر خيارا وحيدا، حتى لو كان الآخر يقود الجميع إلى مهلكتهم، ولكن بأيديهم حين يكون محل ثقة الجميع، ليتلاعب بهم كما يتلاعب بأحجار الشطرنج، وبكل احتراف ومهنية، وليسقط الجميع في النهاية، أو في أحسن الأحوال يجعلهم في أضعف الأحوال، كما حدث للخلافة العثمانية حين حرَّك الغرب المشاعر القومية العربية حتى تحول العرب إلى خنجر مسموم، أسهم في سقوطها وسقوطهم في وحل الاحتلال والضياع والتشرذم.