رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


المؤسسة المعرفية كيف تكون؟

عندما نتحدث عن "المعرفة" فإننا نتحدث عن "الإنسان"؛ لأنه هو العنصر المعرفي الحي الذي متعه الله- سبحانه وتعالى- بالعقل، الذي يعقل ويميز، ويبدع ويبتكر، ويحاكم ويقرر. فإذا قلنا مؤسسة ووصفناها بالمعرفية، فإن جوهر هذا الوصف يربط الإنسان بالمؤسسة، التي يعطيها من معرفته وفكره، كي تتقدم وتزدهر وتقوم بعملها بالشكل المأمول. وبقدر ما تستطيع إدارة المؤسسة تفعيل الدور المعرفي للإنسان فيها، بقدر ما تقترب أكثر فأكثر من كونها "مؤسسة معرفية" تتمتع بقدرة أكبر على العطاء المتميز، وعلى التمتع بموقع تنافسي متقدم بين المؤسسات الأخرى.
ولعل بين أبرز صفات "المؤسسة المعرفية" ما جاء في كتاب للباحثين اليابانيين "أيكوجيرو نوناكا" و"هيروتاكا تاكتشي"، الذي صدر عن مطبعة جامعة أكسفورد عام 1995، وعنوانه "الشركة المبدعة.. كيف تستطيع الشركات اليابانية تفعيل نشاطات الابتكار فيها؟"؛ وما ورد أيضا في بحث تضمن "نموذجا عاما للعمل المعرفي الفعّال في المؤسسات"، أجراه المؤلف الأول للكتاب مع آخرين، ونشر في المجلة المحكمة "التخطيط بعيد المدى LRP" عام 2000.
وسنطرح فيما يلي صفات رئيسة للمؤسسة المعرفية، في ضوء ما ورد في هذين المرجعين المهمين، وصولا إلى استخلاص بعض التوجهات بشأن تفعيل دور المعرفة في مؤسساتنا، بما يعزز إمكاناتها، ويدعم إسهامها في التنمية المستدامة المطلوبة.
يفترض في المؤسسة المعرفية أن تعمل على الاستفادة من كل ما لدى منسوبيها من معرفة، ويدخل في إطار ذلك ليس فقط المعرفة التي يمتلكها هؤلاء، بل المعرفة التي يستطيعون توليدها أيضا. وعلى هذا الأساس، ينظر إلى المؤسسات على أنها تتضمن ثلاثة أبعاد رئيسة: أولها "مصادر المعرفة" لدى المؤسسة، وثانيها أسلوب "تفعيل المعرفة" الذي تتبعه، وثالثها "بيئة العمل" التي تحكم التواصل المعرفي فيها. وفيما يلي عرض عام لهذه الأبعاد.
ترتبط "مصادر المعرفة" في المؤسسة "بالإنسان"، الذي يملك معرفة تحمل قيمة للمؤسسة، ويستطيع توليد مزيد منها لإعطاء قيمة أكبر لهذه المؤسسة. وقد تكون هذه المعرفة، سواء التي يملكها هذا الإنسان أو التي يولدها "بائنة"؛ أي يمكن التعبير عنها بالكلمات وشرحها للآخرين ونقلها إليهم من دون عوائق، أو قد تكون شخصية "كامنة" عصية على التعبير والشرح والنقل إلى الآخرين، وناتجة عن "خبرة خاصة"، ربما تقترن أيضا "بموهبة ذاتية". وقد تحدثنا في مقال سابق عن المعرفة الكامنة وأبرزنا مدى أهميتها.
ينظر إلى مصادر المعرفة على أنها تنقسم إلى نوعين رئيسين: نوع يقدم معرفة بائنة؛ وآخر يتضمن معرفة ذاتية كامنة. وتشمل المعرفة البائنة المعطاة وثائق المؤسسة، وتصميمات منتجاتها وخدماتها، ومنهجيات عملها، وبياناتها المختلفة، والتصاريح وبراءات الاختراع لديها، وما إلى ذلك. أما المعرفة الذاتية الكامنة المعطاة فترتبط أساسا بمهارات العمل، وقدرات الإبداع والابتكار، وتتضمن أيضا روح الالتزام بالجودة، والحماس المعرفي، وما يرتبط بذلك.
ونأتي إلى أسلوب "تفعيل المعرفة" في المؤسسة. والفكرة المطروحة للمؤسسة المعرفية في هذا المجال تتمثل في تفعيل التواصل بين المعرفة البائنة والمعرفة الذاتية الكامنة، فذلك يؤدي ليس فقط إلى تعزيز دور المعرفة المتوافرة في دعم عمل المؤسسة، بل إلى توليد المزيد من المعرفة البائنة والكامنة، وتسخيرها أيضا لمصلحة عمل المؤسسة. ويشمل الأسلوب المقترح لتحقيق هذه الفكرة تنفيذ أربعة أنواع من النشاطات المعرفية المتكاملة التي تشمل: نشاطات معرفية "اجتماعية"؛ ونشاطات معرفية "تعبيرية"؛ ونشاطات معرفية "توثيقية"؛ إضافة إلى نشاطات معرفية "احتوائية".
تسعى النشاطات المعرفية "الاجتماعية" إلى تعزيز العلاقات الاجتماعية بين العاملين، وتشجيع اللقاءات المهنية الودية فيما بينهم، بحيث يستطيعون تبادل الخبرات المعرفية الذاتية الكامنة لديهم، بل يتمكنون من توليد وبناء مزيد منها في إمكاناتهم، ويعملون أيضا على الاستفادة من ذلك في دعم عمل المؤسسة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه النشاطات يمكن أن تتم أيضا بين العاملين في المؤسسة من جهة، وبين زبائنها بل الموردين لاحتياجاتها من جهة أخرى. فقد يكون لدى هؤلاء معرفة كامنة تعطي مزيدا من الفوائد للمؤسسة.
وننتقل إلى النشاطات المعرفية "التعبيرية" التي تحاول إزالة عوائق التعبير عن المعرفة "الكامنة"، والعمل على شرحها وتحويلها إلى معرفة "بائنة"، ما يفسح المجال أمام نشرها، وتحفيز توليد مزيد منها. وتستند هذه النشاطات إلى ملاحظة المهارات الخاصة المرتبطة بالمعرفة الكامنة، واستخدام أساليب مختلفة في الكشف عنها وشرحها، مثل: التفكير التحليلي المسبب، وطريقة وضع الفرضيات والتحقق منها، ورسم الأشكال التوضيحية والرموز التمثيلية المعبرة، وغير ذلك.
وتعمل النشاطات المعرفية "التوثيقية" على جمع المعطيات المُختلفة للمعرفة بنوعيها البائنة والكامنة، ووضعها في إطار متكامل ومنظم يعبر عن حالة المؤسسة وإجراءاتها وتطلعاتها ومعطياتها. ويفيد هذا الأمر في تكوين صورة شاملة للمؤسسة، تسمح بالاستجابة لمتطلبات تطويرها نحو الأفضل.
أما النشاطات "الاحتوائية" في أسلوب تفعيل المعرفة، فتستند إلى مبدأ "التعلم من خلال العمل". فعلى هذا الأساس يتم تلقي المعرفة البائنة المطلوبة لعمل المؤسسة، ويجري العمل على تنفيذها، ومن خلال ذلك، تتولد لدى العاملين نتيجة الخبرة التي يكتسبونها، والمواهب التي يحملونها، معرفة كامنة جديدة ومفيدة. وانطلاقا من هذه المعرفة تتم العودة إلى النشاطات الاجتماعية والتعبيرية والتوثيقية والاحتوائية في دورة أخرى من تفعيل المعرفة في المؤسسة.
وبالطبع تحتاج مصادر المعرفة في المؤسسة ونشاطات تفعيل المعرفة فيها إلى البعد الثالث المتمثل في وجود "بيئة" حاكمة مناسبة. والمتطلب الرئيس لهذه البيئة هو تمكين مصادر المعرفة من النشاطات المطلوبة على أفضل وجه ممكن. والمقصود هنا تسهيل التعاون بين الأفراد والجماعات أو فرق العمل بما يشمل: الفرد مع الفرد، ومع الجماعة؛ والجماعة مع الجماعة، ومع الفرد. ويمكن لهذا التعاون أن يكون مباشرا وجها لوجه، أو افتراضيا عبر وسائط تقنية المعلومات والاتصالات.
ونحن في توجهنا نحو بناء مجتمع المعرفة نحتاج إلى تحويل مؤسساتنا إلى مؤسسات معرفية تفعل المعرفة في عملها، بشقيها "البائنة والكامنة"، وتحفز الإبداع والابتكار، وتسعى إلى مكانة تنافسية متميزة، وتسلك في سبيل ذلك أفضل الطرق. ولعل جوهر الأمر هنا هو الاهتمام بالإنسان في المؤسسة؛ لأنه مصدر المعرفة، والتركيز على النشاطات المعرفية الفاعلة، وتأمين بيئة العمل المناسبة التي يمكن أن تزيل العوائق، وتعطي الدافع الإيجابي المنشود.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي