الإعلام .. والنقد
في عام 1963، كانت ثمة مفارقة تحدث، ففي الوقت الذي كانت أمريكا تستدعي عساكرها لمواجهة الشغب، إثر إلغاء الفصل العنصري في المدارس، أمر الملك فيصل- رحمه الله- بتوفير حراسة أمنية لإبقاء مدرسة في إحدى مدننا للبنات مفتوحة، بطالبة واحدة لعام كامل. هذه الطالبة لم تكن سوى ابنة المديرة نفسها. تذكرت هذا وأنا أتابع الأخبار الأمريكية أخيرا حول تصرفات الشرطة الأمريكية المتكررة، التي وصفت بالعنصرية تجاه مواطنين سود، وبطبيعة الحال بين أخبارنا التي نقارنها الآن وبين سنوات مضت مثل خبر منع جوال الباندا مثلا. الزمن يتغير، وعناوين الأخبار تتغير، بعضها يأتي بمفارقات عجيبة. أخبار منها الجاد، ومنها التاريخي، ومنها ما يأتي بمظهر ساخر على تغير الزمن. ولو تابعنا قائمة الأخبار السابقة التي يعود وقتها إلى سنوات قليلة فقط لاستلقينا من كثرة الضحك، ولكنه ضحك كالبكاء، إلا أن أعظم التحولات يأتي من أصغر التغيرات.
قبل سنوات، كنت أجلس على طاولة إفطار رمضاني في أحد فنادق جدة، كان ذلك في مهمة عمل جمعتني مع بعض الأمريكيين. وكانت شاشة الفندق الضخمة وسط القاعة تبث مسلسل "طاش ما طاش". حوت الحلقة ذلك المساء مشاهد تبدو لنا كوميدية ومغرقة في المحلية. وهي لن تبدو في نظر ثقافات أخرى سوى مناظر ساذجة. ولم تكن على أي حال مفهومة أيضا لعقل أمريكي اعتاد النقد الصريح. حاولت شرح فكرة المسلسل بأنها تقوم على نقد الأجهزة الحكومية والمجتمع في سعي أفضل نحو التغيير: وهل ينجح ذلك؟ سألني "روبيرت"، أعتقد بالفعل، أجبته، فكل حلقة تثير عاصفة من الضحك والسخرية أو الحنق أحيانا، وحين ننتهي من ذلك نبدأ بالتفكير.
الآن حلت أدوات بديلة، منها ما هو ساخر، ومنها ما هو صريح ومباشر. الساخر كالبرامج الشبابية اللاذعة، والصريح المواجه كبرنامج "الثامنة" لداوود الشريان. وبرنامج "الثامنة" بحد ذاته نقلة في النقد السعودي الإعلامي الصريح. برنامج داوود ليس برنامجا عابرا، بل علامة حيوية. في الحقيقة، ثمة علاقة بينية تربط وسائل الإعلام بترتيب الأولويات في أذهان العامة، وفي أذهان الحكومات أيضا. والإعلام في غالب الأحيان محرك رئيس في ترتيب سلم الأولويات ورسمه في الأذهان. ويكون ذلك من خلال تأسيس حالة "وعي" نحو القضايا الأهم فالمهم.
في موقع عالمي متخصص في النقاشات والآراء والتصويت حول القضايا الجدلية، كان هناك سؤال للتصويت يقول: هل يمكن تسميتك وطنيا في حال انتقدت حكومتك؟ أجاب 91 في المائة من الأعضاء بـ"نعم"، مشيرين إلى أن ذلك من الواجب، وأن النقد مفتاح الوطنية الأهم، وهو خط دفاعي افتراضي؛ لأن المسؤولين يقودون شؤون الشعب، والشعب يسعى إلى التعبير عما يريد ويراه مناسبا له ليشعر بالرضا. لكن السؤال: إلى أي مدى يستفيد المسؤولون من نقد وسائل الإعلام فعلا؟ هل يستخدم النقد للإصلاح والتغيير، أم يمر مرور الكرام ويتم تجاوزه ونسيانه بعد النقد والمواجهة؟ وما التغيير الذي قدمه هذا النقد؟ ربما يخصص الشريان حلقة حول هذه الأسئلة، هو الذي واجه عددا كبيرا من الأجهزة والمسؤولين.