رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


إدارة المعرفة لاستثمارها

لا شك أن المعرفة قيمة، لكن ظهور هذه القيمة على أرض الواقع يحتاج إلى التعامل مع المعرفة بطرق سليمة تؤدي إلى تطبيقها، حيث "تحيا المعرفة في التطبيقات"، كما يقول بيتر دركر أحد رواد قضايا المعرفة في القرن العشرين للميلاد. هذا التعامل السليم مع المعرفة من أجل تفعيل قيمتها والاستفادة منها بات مجالا من مجالات المعرفة يدعى "إدارة المعرفة". وتحتاج إلى هذه الإدارة كل "وحدة استراتيجية" لها اعتباراتها، وتوجهاتها، وقدراتها، وتأثيرها، ابتداء من الإنسان الفرد، والأسرة، والمؤسسة، والدولة، بل العالم بأسره.
وفي طرح مسألة إدارة المعرفة من أجل الاستفادة منها، سنبدأ بما قيل في شؤون المعرفة من قبل بعض المختصين المستقلين المهتمين بقضاياها، ومن قبل مختصي بعض المؤسسات المختلفة التي اهتمت بها.
ولعلنا ننطلق أولا من القول التالي للمفكر العربي جبران خليل جبران الذي عاصر بعضا من القرنين التاسع عشر والعشرين: "معرفة قليلة تعمل خير من معرفة كثيرة عاطلة عن العمل". ويشبه هذا القول في معناه قول "تحيا المعرفة في التطبيقات" الذي طرحناه في بداية هذا المقال؛ لكنه يتميز عنه في أنه سابق له من جهة، وأنه يؤكد على عدم أهمية المعرفة غير المستخدمة، حتى وإن كانت كثيرة.
وتعرّف وكالة الفضاء الأمريكية ناسا NASA إدارة المعرفة على أنها "حصول الشخص المناسب على المعلومة المناسبة في الوقت المناسب". وتعتبر الوكالة أن هناك ثلاثة أعمدة رئيسة لإدارة المعرفة هي "الحصول على المعرفة، وتوليد المزيد منها، إضافة إلى الشراكة فيها". وتبين هذه النظرة أن إدارة المعرفة تشمل تأمين "جاهزية معرفية" مناسبة لأولئك الذين يحتاجون إليها من جهة؛ كما تتضمن "ضرورة تفعيل النشاطات المعرفية الرئيسة" من جهة أخرى. والغاية من ذلك بالطبع هي جعل المعرفة حية والعمل على الاستفادة منها.
وتطرح مؤسسة ماكنزي McKinsey الاستشارية أفكارا حول إدارة المعرفة تتمحور حول "المعرفة المفيدة" بمعنى المعرفة التي نحتاج إليها والتي نستطيع تطبيقها والاستفادة منها. وتركز المؤسسة على أهمية حماس الإنسان للمعرفة وتوجهه نحو السعي إليها، وتعبر عن ذلك "بالجوع المعرفي"؛ كما أنها تهتم بالنشاطات المعرفية الرئيسة التي تحددها على أنها "توليد المعرفة، ونشرها، وتطبيقها".
وللباحثين اليابانيين نوناكا وتاكيوشي Nonaka & Takeuchi نظرتهما إلى إدارة المعرفة في المؤسسات. وتهتم هذه النظرة بضرورة تمتع المؤسسات بثلاث مزايا معرفية، هي: "توليد المعرفة، ونشرها في إطار المؤسسة، والاستفادة منها من خلال تضمينها في منتجات وخدمات وأنظمة مفيدة". ولهذين الباحثين إسهام في موضوع توليد المعرفة والتفاعل في ذلك مع المعرفة "الكامنة" التي تحدثنا عنها في مقال سابق. وربما نعود إلى هذا الموضوع في مقال قادم بمشيئة الله.
وتطرح الهيئات المهتمة بنشر المعرفة، مثل "وايلي للإعلام" Wiley Media، توضيحات لمفهوم إدارة المعرفة. ويشمل ذلك اعتبار هذه الإدارة "كاستجابة لحاجة تتمثل في تقديم عمل يتمتع بقيمة"؛ واعتبارها أيضا "وسيلة مساعدة للمؤسسات تفعّل استجابتها للمتغيرات، أو حتى توقع المتغيرات واتخاذ إجراءات استباقية حيالها". والمعنى المقصود في هذا الإطار هو العمل على إطلاق فوائد المعرفة في الأعمال المختلفة من جهة؛ والاستفادة من رصد المتغيرات في إطلاق مبادرات استباقية تضع أصحابها في موقع تنافسي متميز من جهة أخرى.
وإذا كانت إدارة المعرفة تقدم وسائل فكرية للتعامل مع المعرفة، فإن تقنية المعلومات والاتصالات تسهم في تفعيل هذه الوسائل الفكرية عبر وسائطها التقنية، فهي تخزن المعلومات الحاملة للمعرفة بأحجام كبيرة ضمن شرائح إلكترونية صغيرة ومنخفضة التكاليف. وهي تعالج المعلومات طبقا لإجراءات إنسانية تم وضعها في برامج حاسوبية بسرعة وكفاءة وفاعلية. كما أنها تنقل المعرفة عبر المسافات بسرعة وكفاءة وفاعلية أيضا. أمام هذه الحقائق لا بد من القول إن نجاح إدارة المعرفة يقترن ليس فقط بالأفكار التي تقدمها، بل باستخدام تقنية المعلومات والاتصالات في تفعيل هذه الأفكار أيضا.
ولعله من المفيد بعد ما سبق، أن نبرز بعض الاحتياجات الأساسية المهمة لإدارة المعرفة، وأن نضع هذه الاحتياجات في إطار خمسة محاور رئيسة، سبق أن طرحت في كتاب "منظومة مجتمع المعرفة المتوافر على الموقع http://faculty.ksu.edu.sa/shb/default.aspx". وهذه المحاور هي: الاستراتيجية؛ والإنسان؛ والمؤسسة؛ والتقنية؛ وبيئة العمل.
"استراتيجيا" تسعى إدارة المعرفة إلى "تفعيل المعرفة المفيدة وجعلها حية واستخدامها والاستفادة منها". وتتطلع هذه الإدارة "إنسانيا" إلى "الحماس المعرفي والإقبال على المعرفة المفيدة". كما أنها تهتم في الإطار المؤسسي "بالجاهزية المعرفية وتطوير الأداء والاستجابة للمتغيرات في الوقت المناسب، أو حتى استباقيا عند الحاجة". وتحتاج في التنفيذ إلى استخدام "تقنية المعلومات والاتصالات" بكفاءة وفاعلية. وتتطلب إضافة إلى ما تقدم "بيئة عمل مناسبة" معززة بأنظمة داعمة، وإجراءات رشيقة، وممارسة سليمة.
ولا يقتصر تطبيق مبادئ إدارة المعرفة ومعطياتها على المؤسسات الكبرى أو الصغرى، بل يشمل أي "وحدة استراتيجية"، ابتداء من مستوى الإنسان الفرد. فلكل إنسان منا أهداف واستراتيجية في الحياة، للمعرفة دور مهم فيها. كما أن له توجها إنسانيا معرفيا يدرك بلا شك أهمية المعرفة عموما، والحاجة إلى ذلك في هذا العصر بوجه خاص. ثم إن له في سلوكه الخاص وعمله المهني كيانا مؤسسيا يؤدي من خلاله دوره ويقدم معطياته باستخدام المعرفة. وهو إضافة إلى ذلك يستخدم تقنية المعلومات والاتصالات في شتى أمور حياته الخاصة والمهنية. يضاف إلى ذلك أنه هو الذي يحدد بيئة عمله من خلال عاداته الخاصة وأسلوب حياته، إضافة بالطبع إلى خضوعه للبيئة العامة من حوله.
على أساس ما سبق، يحتاج كل منا إلى إدارة المعرفة في إطار ذاته، وهو الإطار الذي يملك زمامه. يحتاج إلى إدراك المعرفة المفيدة، وإلى جعلها حية بالتطبيق الفعلي الواعي، بما يؤدي إلى الاستفادة منها على أفضل وجه ممكن. فإذا كانت المعرفة المفيدة تقول للإنسان ابتعد عن الطعام غير الصحي فلماذا لا يبتعد؛ وإذا كانت هذه المعرفة تقول احفظ حياتك وحياة الآخرين بالاستجابة إلى قوانين السير فلماذا لا يستجيب. إن في إدارة المعرفة أفكارا مهمة كثيرة يمكن تطبيقها في التنمية ليس الاقتصادية فقط، بل الإنسانية أيضا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي