رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


المعرفة «الكامنة» تحتاج أيضا إلى الاهتمام

"المعرفة" في المعنى المعتاد هي "ما يعرفه الإنسان" في الوقت الحاضر. لكنها في المعنى المطلق ليست كذلك فقط، بل هي أيضا "ما لا يعرفه الإنسان" في الوقت الحاضر. ما يعرفه الإنسان جاءنا، عبر الأجيال السابقة والحالية، من مصادر مختلفة. وتتضمن هذه المصادر الحقائق التي أدركها الإنسان بالتجربة والخبرة؛ والأمور التي توصل إليها بالتفكير والمحاكمة الذهنية.
ما لا يعرفه الإنسان اليوم، قد تتمكن الأجيال اللاحقة من إدراك أجزاء منه بالتجربة والخبرة، وكذلك التفكير والمحاكمة. وقد أدرك الإنسان عبر الأجيال أن المعرفة كنز لا يفنى، وأنه كلما تعمق في العلم وتوسع في مجالاته، اكتشف محدودية ما يعرف مقارنة بما لا يعرف. فالباحث عن المعرفة يخرج دائما بتساؤلات تفوق ما يقدم من إجابات. وقد أخبرنا الله تعالى بذلك في الآية الكريمة من سورة الإسراء "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا".
تشمل مفاهيم المعرفة التي سنطرحها في هذا المقال تلك التي طرحها "مايكل بولاني"، العالم البريطاني الهنغاري الأصل، عام 1966، حيث قال، إن المعرفة تنقسم إلى قسمين، قسم سماه "معرفة بائنة"؛ وآخر دعاه "معرفة كامنة".
"المعرفة البائنة" هي المعرفة العامة؛ المعرفة التي نستطيع أن نعبر عنها بالكلمات، ونشرحها للآخرين، وننقلها إليهم دون عوائق. وهذه المعرفة هي تلك المنشورة في الكتب والمجلات، أو تلك المطروحة في الأحاديث والمحاضرات. هي المعرفة المتداولة والمتاحة للشراكة بين الناس؛ هي المعرفة التي يستطيع كل إنسان اكتسابها من الآخرين؛ كما يستطيع نقلها إليهم.
أما "المعرفة الكامنة" فهي المعرفة الخاصة؛ وهي نوعان، معرفة تشبه "المعرفة البائنة"، ويمكن التعبير عنها وشرحها، ولكن يفضل لأسباب مختلفة، أن "تبقى سرية" لدى صاحبها أو بين الخاصة من حوله. ويرتبط هذا النوع في المجال التقني، على سبيل المثال، بالرغبة في عدم نقل المعرفة التقنية إلى الآخرين، حرصا على التميز المعرفي، وعلى الاستفادة من هذا التميز في التفوق على الآخرين. ولا تبقى مثل هذه المعرفة خاصة وسرية لفترات طويلة، بل تتحول تدريجيا إلى معرفة عامة بائنة. فالمعرفة الخاصة بالطاقة النووية مثلا كانت يوما "كامنة" بين مجموعات محدودة من العلماء، لكنها انطلقت بعد ذلك لتصبح "بائنة" عامة، ومتاحة على نطاق واسع.
ونأتي إلى النوع الثاني من "المعرفة الكامنة"، وهو ذاك الذي يجعل هذه المعرفة "عصية على التعبير والشرح والنقل إلى الآخرين"، لأنها معرفة ذاتية ترتبط بتكوين صاحبها الطبيعي، أو بتكوينه المكتسب عبر عمله وحياته، أو ربما الاثنان معا. إنها المعرفة الناتجة عن "موهبة" ذاتية في مجال معين، أو "خبرة" شخصية مكتسبة في مجال محدد، أو قد تكون بالطبع مزيجا من الاثنتين. هذه المعرفة هي إذن تلك التي تميز إنسانا بعينه عن الآخرين، وتجعله محط الأنظار في مجال من المجالات.
ربما يكون الإنسان موهوبا في التفكير الرياضي، أو موهوبا في التعبير والصياغة الأدبية، أو موهوبا في أي حقل آخر، حيث يكون من الصعب إيجاد بديل له في هذا الحقل إلا ذاته. وقد طرحنا في مقال سابق حول "اكتشاف تميز الإنسان" أن للذكاء، طبقا لبحوث "هوارد جاردنر"، الأستاذ في جامعة هارفرد، تسعة مجالات يمكن للإنسان أن يتميز في مجال أو أكثر منها. وبينا في الوقت ذاته أن "كين روبنسون" التربوي الشهير يقول، إن لكل إنسان "جوهرا خاصا به" يجعله متميزا فيه عن الآخرين.
وكما أسلفنا في موضوع "المعرفة الكامنة"، لا يكون تميز الإنسان ناتجا فقط عن موهبة يحملها في تكوينه، بل يمكن أن يرتبط "بالخبرة"؛ ويمكن أيضا تجتمع الخبرة مع الموهبة، خصوصا عندما يكون مجال عمل الإنسان هو المجال المتوافق مع موهبته. وفي إطار الخبرة المتميزة يطرح باحثو موضوع "إدارة المعرفة" ضرورة الاستعانة عند الحاجة بأصحاب الخبرة المتميزين في المجالات المختلفة للاستفادة من "المعرفة الكامنة" لديهم.
هناك مشكلتان رئيستان في موضوع "المعرفة الشخصية الكامنة". أولاهما هي اكتشاف هذه المعرفة من أجل الاستفادة من أصحابها على أفضل وجه ممكن. وثانيهما هي استنباط هذه المعرفة من أصحابها ونقلها إلى الآخرين لتفعيل فوائدها. فهذه المعرفة ضائعة إن لم تكتشف في أصحابها، كما أنها ضائعة أيضا مع رحيل أصحابها، حتى وإن اكتشفت فيهم. فهي ليست "كالمعرفة البائنة" قابلة للطرح والشرح بالكلمات والنقل إلى الآخرين.
وفي إطار التعامل مع كل من المشكلتين، تبرز وسيلة "الشراكة المعرفية" ليس "بالحوار" المعرفي ومناقشة الأمور فقط، بل في أساليب "العمل" وإجراءات التعامل والسلوك أيضا. وليست هذه الشراكة فكرة جديدة، بل هي في الحقيقة من أبرز أساليب التعليم والتعلم في المدارس وحلقات المعرفة القديمة.
فقد كان طلاب العلم يرافقون أساتذتهم ساعات طويلة في اليوم الواحد، ولسنوات طويلة أيضا. يحاورونهم ويناقشونهم، يقلدونهم في أعمالهم وأساليبهم، بل ويختلفون معهم أيضا. من خلال ذلك تبرز المواهب وتتراكم الخبرات؛ وتنقل هذه المعارف "الكامنة" فيما بين هؤلاء، حتى ولو جزئيا. ولا شك أن المعرفة تحفز الإبداع والابتكار والمعرفة الجديدة، كما أنها تقود إلى المزيد الذي يغذي هذا العصر.
تحتاج "المعرفة"، التي تطبع العصر الذي نعيش فيه، إلى "تفعيل"؛ تحتاج إلى أن تكون "حية" يجري تطبيقها والاستفادة منها ليس على مستوى الاقتصاد والأعمال، بل على المستوى الشخصي أيضا. تحتاج إلى "شراكة" في التعلم والتعليم، وفي الإبداع والابتكار، وفي الحياة المهنية. هذه الشراكة لا تؤدي إلى تفعيل المعرفة "البائنة" فقط، بل إلى اكتشاف ونقل وتفعيل "المعرفة الشخصية الكامنة أيضا".
ولا بد للمعرفة بعد ذلك وقبله من ضابط أخلاقي يوجهها إلى الخير والبناء وليس إلى الشر والدمار. ولنا في القول التالي الذي يروى عن الخوارزمي، عالم الرياضيات المسلم الشهير على مستوى العالم في تاريخ العلوم، عبرة في أهمية هذا الضابط الأخلاقي.
"إذا كان الإنسان ذا أخلاق فهو (1)؛ وإذا كان ذا جمال فهو (10)؛ وإذا كان ذا مال أيضا فهو (100)؛ وإذا كان ذا حسب ونسب كذلك فهو (1000)؛ إذا ذهبت الأخلاق ذهب العدد (1)؛ وبقيت الأصفار (000) التي لا تحمل أي قيمة".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي