رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


ماذا كانت ردة الفعل للمد القومي العربي؟

ظهرت على سطح الدول الناطقة بالعربية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا موجة قومية انتشرت انتشارا سريعا من خلال الأحزاب التي تبنت المفهوم القومي العربي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
هذه الموجة كانت أحيانا من الحدة والعنف بمكان إلى درجة أننا قد لا نجانب الصواب إن أجرينا بعض المقارنات والمقاربات بينها وبين ما نلاحظه من موجة دينية ومذهبية مسيّسة تعصف اليوم بالمنطقة ذاتها.
الموجة القومية العربية فشلت في نقل المجتمعات العربية إلى حال أفضل لمحدودية أفقها وتشبثها وبعنف بمواقفها، حيث فسرت كل شيء في الحياة العربية والإسلامية ضمن مفهومها الضيق للقومية الذي استعارته من الغرب وطبقته بحذافيره دون مراعاة للثقافة والهوية المحلية.
وهي عندما بدأت تطبيقها للمفهوم القومي الغربي، كان الغرب ذاته قد غادر دون رجعة ما اعتبره القوميون العرب من المقدسات والمحرمات، وأخذوا بفرضه بقسوة وأحيانا بعنف وبطش على شعوبهم فيما رأوه أنه السبيل الوحيد لنهوض العرب.
وكل شيء يفرض على الناس قسرا، لا سيما المفاهيم التي تمس ثقافتهم وهويتهم، لا بد أن يلاقي مقاومة. المفهوم القومي العربي كان في أغلبه تقريبا استعارة أو اقتباسا من المفهوم القومي الغربي الذي نما في فرنسا وغيرها من الدول الغربية لا سيما إبان عهودها الاستعمارية.
الفرق هو أن الاستعمار الغربي كان أساسا موجها لاستغلال الأمم الأخرى ومنها الشعوب العربية خدمة لمصالحه ومصالح شعوبه. بيد أن الحركات القومية العربية كانت في أغلبها موجهة لاستغلال الشعوب التي قالت إنها أتت لخدمتها وإقصاء كل هوية وثقافة لم تتماش مع تطلعاتها.
من الصعب الجزم عند التحدث عن التاريخ، لا سيما محاولة تفسير ظاهرة تاريخية وربطها بالحاضر. ولكن عندما نرى أن العنف والاقتتال الداخلي المروع والمدمر الذي يعصف أكثر ما يعصف ـــ حتى الآن ـــ بدول عربية سادت فيها الأحزاب ذات التوجه القومي بالمفهوم الشرق أوسطي، فإن هذا قد يدعونا إلى إثارة سؤال يبدأ بـ "لماذا".
ما يهمني في هذا المقال ليس التفسير السياسي، بل التفسير "القومي" للمد القومي الذي كان سائدا في الدول العربية. كان هناك ولا يزال، في رأيي، سوء فهم لمعنى "القومية" في الشرق الأوسط. كلمة القومية ذاتها، وكما أشرت أعلاه، استعارها العرب من الغرب وهي ترجمة غير دقيقة لمصطلح nationality.
في الغرب ميزوا ولا يزالون يميزون بين مفهوم القومية nationality ومفهوم الهوية identity. القومية تعني المواطنة ولها علاقة وطيدة بالوطن كجنسية وجواز سفر وحدود جغرافية. والوطن أي وطن من المستحيل تقريبا أن تكون له هوية واحدة. الهوية تشير إلى الثقافة والتقاليد والشعائر التي قد تكون مختلفة حتى ضمن نطاق لغة واحدة مثل العربية.
والوطن "القومية" قد يضم لغات مختلفة واللغة هي الوعاء الأكبر الذي يضم الهوية والثقافة وما يتفرع منهما، والدين والمذهب ما هما إلا جزء من الهوية. الوطن قد يضم أديانا مختلفة ولغات مختلفة ومذاهب مختلفة، وضمن المذهب الواحد حتى قد تكون هناك تفرعات وتفاسير مختلفة.
القوميون العرب اختزلوا كل شيء تقريبا في مفهومهم الضيق للقومية الذي رفض ليس قبول بل وحتى التعامل بإيجابية مع بعض أوجه الاختلاف ما لم تدر في فلكه ونطاقه. القومية لديهم لم تمثل "الوطن" كخيمة في ظلها يستظل كل من يحمل جنسية الوطن وجواز سفره باختلاف ثقافاتهم وهوياتهم.
جعلوا من "القومية" و"الوطن" حكرا على أيديولوجيتهم, واستأثروا وتفردوا بالمعرفة، وجعلوا من أنفسهم أوصياء على المعرفة كما هو شأن رجال الدين تقريبا في كل الأزمنة والأمكنة.
والتفرد في المعرفة وصنع القرار أمر خطير عند تعلق الشأن بمصير الشعوب، والتفرد له ردة فعل عنيفة قد تكون أكثر قسوة وشراسة. والتفرد تنبع خطورته أيضا من كونه قابلا للاستغلال بسهولة، ليس فقط من الثقافات والهويات التي يتم طمسها أو البطش بها، بل من قِبل أعداء الوطن. والغرب، الذي لم يغادر أيديولوجيته الاستعمارية عند التعامل مع شعوب المنطقة، كان أكثر من استغل المفهوم القومي العربي لمصلحته.
والشرق الأوسط وبلدانه وشعوبه هم الآن تحت تأثير ردة فعل جزء منها من وجهة نظري سببه المد القومي العربي بمفهومه أعلاه.
ولكن من المؤسف أن نرى أن ردة الفعل هذه، التي تتخذ من الدين والمذهب ستارا لها، فيها من التفرد والقسوة والعنف والضيق والفتك والإقصاء للهوية والثقافة ما قد يبز ما كان لدى القوميين العرب.
والتفرد والقسوة في ردة الفعل هذه لهما خطورة كبيرة أيضا أولا على أصحابها حيث يتم استغلالهم بسهولة، وثانيا من قِبل الغرب، وثالثا وهذا الأهم من قبل أيديولوجيات تتمسح بالدين والنصوص التي تنتفها من الكتب التي تراها مقدسة خدمة لمصالحها الخاصة ومصالح أولياء نعمتها.
وهكذا وكما أقصت "القومية" العربية الثقافات والهويات المختلفة عنها، تحاول ردة الفعل هذه ليس فقط إقصاء بل تدمير كل من يخالفها وتفسيرها الخاص للحياة حتى وإن كان ضمن نطاق الثقافة والهوية ذاتها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي