رشاقة المؤسسة ومسألة التنافسية
"الرشاقة" صفة محمودة للموصوف بها، نجدها مقترنة مع جسم الإنسان، ومع سرعة البديهة، ومع مرونة الاستجابة للمتغيرات، ومع أسلوب التعبير، ومع أشكال الأشياء وأدائها، ومع إدارة المؤسسات وإنجاز الأعمال، ومع غير ذلك في كثير من الحالات المختلفة أيضا. والمصدر الثلاثي لكلمة رشاقة في اللغة العربية هو "رشق"، واشتقاقاته "رشق رشاقة فهو رشيق". والموصوف بذلك، في مجال معين، يتمتع بإمكانات متميزة، تسهم مع صفات أخرى في تأهيله لتقدم الصفوف والتنافس مع الأوائل في هذا المجال.
وتقترن الرشاقة عموما بالخفة والسرعة. و"الخفة" هنا ترتبط بالتخلص مما لا لزوم له، سواء الشحوم في جسم الإنسان، أو الإجراءات غير الضرورية في أعمال المؤسسات. لأن مثل ذلك يؤدي إلى جهد ضائع وإلى إعاقة لحسن الأداء. ويرتبط هذا الأمر "بالجودة" التي تهتم بتقليص "الجهود الضائعة" إلى الحد الأدنى، أو حتى إزالتها إن كان ذلك ممكنا. ولا شك أن الخفة وسيلة من وسائل السرعة، وأن السرعة مطلوبة في عالم يتسم بالمنافسة في كل شيء تقريبا. فأداء عمل مطلوب بسرعة أعلى يعطي صاحبه تميزا على من يؤدي ذات العمل، ولكن بسرعة أقل.
وليست الرشاقة في عمل المؤسسات المختلفة كافية بمفردها لتحقيق مكانة تنافسية مع ما يماثلها من مؤسسات، بل لا بد من تكامل هذه الصفة مع صفات أخرى ضرورية، تدخل أيضا في إطار "الجودة" التي تحدثنا عنها في مقال سابق. وبين أهم هذه الصفات "فاعلية" العمل و"كفاءته". ففي الفاعلية تنفيذ لمتطلبات العمل، بما يحقق موثوقية النتائج، وبما يحفظ أمن وسلامة العمل والعاملين وأصحاب العلاقة. وفي الكفاءة ضبط للقيمة، بما يؤدي إلى تقديم المخرجات المنشودة بأقل ما يمكن من التكاليف. ولا شك أن في إضافة الرشاقة فاعلية أعلى من خلال تحقيق المتطلبات بسرعة أكبر؛ وفيها أيضا كفاءة أفضل لأن الإنجاز بزمن أقل يحد من التكاليف. ويعزز ذلك القدرة على المنافسة.
ولعله من المفيد أن نلقي الضوء على كيفية تحقيق "الرشاقة في المؤسسات". وقد يكون الحل البديهي الأول في هذا المجال هو "أتمتة" إجراءات العمل في مؤسسات التصنيع وتقديم المنتجات، أي جعل تنفيذ هذه الإجراءات "آليا" عبر أنظمة إلكترونية وميكانيكية خاصة بها. أو قد يكون هذا التوجه بالنسبة لمؤسسات الخدمات، تقديم هذه الخدمات عبر إجراءات تتم "إلكترونيا"، كما هو الحال في "التعاملات الإلكترونية الحكومية" التي حققت المملكة فيها قفزات واضحة، كما ذكرنا في مقال سابق. لكنّ كلا من هذين الحلين غير كافٍ إن لم يقترن بالنظر بعمق إلى "رشاقة إجراءات أتمتة التصنيع"، و"رشاقة إجراءات الخدمات".
يتمثل إجراء تنفيذ عمل ما بمسار له محطة بدء ينطلق منها، ومحطة نهاية يقدم فيها النتائج. وبين هاتين المحطتين، محطات أخرى يتم عندها تنفيذ مهمات يحتاج إليها الإجراء المطروح. وقد تكون محطات الإجراء هذه داخل المؤسسة صاحبة العلاقة، أو خارجها، ومثال ذلك أن يكون ضمن الإجراء دفع رسوم يطلبها الإجراء عبر أحد المصارف. وقد يكون لإجراء تنفيذ العمل محطات محدودة، أو قد يكون له محطات عديدة لمهمات مختلفة. ويكون لكل مهمة عادة إجراء خاص لتنفيذها، ربما يكون بسيطا أو يكون معقدا.
حصيلة ما تقدم أن إجراءات تنفيذ الأعمال في المؤسسات تتكون في شكلها العام من شبكة متكاملة من المهمات التي تحتاج إلى "رشاقة في الأداء" مقرونة بالفاعلية والكفاءة. فهذه الرشاقة تعطيها تميزا عن المؤسسات المثيلة لها في سرعة إنجاز المتطلبات التي لا تشمل فقط سرعة "أداء الأعمال المعتادة"، بل سرعة "الاستجابة للمتغيرات" أيضا. والمتغيرات كثيرة في العصر، تشمل معطيات الإبداع والابتكار التي تمثل عوامل رئيسة في قضية التنافسية.
يحتاج جعل إجراءات تنفيذ الأعمال أكثر رشاقة إلى إعادة نظر دورية في شبكات هذه الإجراءات ومحطات تنفيذ الأعمال فيها. فإذا كان لكل عمل هدف، فإن رشاقة إجراءات تنفيذه تتمثل في تحديد حد أدنى من المحطات والمهمات التي يحتاج إليها هذا التنفيذ، مع المحافظة على فاعلية العمل وكفاءته. كما تتمثل هذه الرشاقة أيضا في تحديد مسيرة الإجراء عبر هذه المحطات بحيث لا يكون هناك دورات من التكرار غير الضرورية بين محطاته تؤدي إلى الحد من رشاقته. ويضاف إلى ذلك مراعاة عدم اختناق الإجراءات عند محطات معينة تتراكم عندها المهمات، ففي ذلك إعاقة للرشاقة؛ حيث لا بد في مثل هذه الحالات من إعادة النظر في توزيع المهمات، بما يجعل مسيرة تنفيذ الإجراءات خفيفة رشيقة تحقق متطلباتها المنشودة.
يعطي ما سبق، مضافا إليه استخدام تقنيات الأتمتة وتقنيات التعاملات الإلكترونية، رشاقة في تنفيذ الأعمال المختلفة. وقد بات هذا الأمر موضوعا حيويا يعرف باسم "هندسة الإجراءات"، أو "هندسة الإدارة"، ويطلق عليه باللغة العربية اسم مختصر هو "الهندرة" يتضمن دمجا بين الهندسة والإدارة. ولا شك أن الاهتمام بهذا الموضوع بات ضرورة من ضرورات العصر الذي نعيش فيه، حيث السباق في مختلف المجالات والتنافس فيها قائم بين الجميع ومستمر دون توقف.
وهناك أدلة ومؤشرات تهتم بتقييم رشاقة الدول في مختلف الأعمال. ومن ذلك على سبيل المثال "دليل سهولة بدء الأعمال" الذي يستخدم ضمن دليل الابتكار العالمي. ويرصد هذا الدليل مستوى رشاقة إجراءات ترخيص الأعمال الجديدة والسماح لها بالانطلاق. ويضم هذا الدليل عددا من المؤشرات تشمل: عدد الإجراءات اللازمة لترخيص العمل؛ وعدد الأيام التي يستغرقها ذلك؛ وتكاليف هذه الإجراءات بالنسبة إلى مستوى الدخل؛ وغير ذلك. وتقوم وزارة التجارة والصناعة في المملكة بجهود واضحة في تسهيل إطلاق الأعمال للإسهام في التنمية وتعزيز استدامتها.
إن الوعي العام ببيئة السباق والتنافس في عالم اليوم، على مستوى الأفراد والمؤسسات، وعلى مستوى الدول أيضا، ضرورة من ضرورات بناء المستقبل. ولا بد لمثل هذا الوعي من أن يكون مرتبطا بالجاهزية لهذا السباق والتنافس. ولعل من أهم متطلبات هذه الجاهزية السعي إلى أن تتمتع جميع أعمالنا "بالرشاقة المقرونة بالفاعلية والكفاءة". والأمل ألا تكون الأفكار الواعدة في أذهاننا فقط، بل أن نقوم بتنفيذها عمليا على أرض الواقع، لندخل بها حلبة السباق والمنافسة الحتمية مع الآخرين.