رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


أطنان وأطنان من القنابل والكلام

قلما بقي بلد شرق أوسطي في منأى عن أطنان من القنابل التي تتساقط عليه من كل حدب وصوب والتفجيرات شبه اليومية، التي تدمر في نسيجه الاجتماعي، إلى درجة أن مسألة مقتل أو مصرع العشرات وربما أحيانا المئات يوميا، صارت أمرا مألوفا.
والقتلى أو الضحايا أو الشهداء ـــ انتقاء المفردة غالبا ما يكون له بعد فكري وأيديولوجي ـــ يسقطون زرافات وكأن لا صاحب لهم ولا وطن لهم ولا إنسانية لهم.
ويبدو أن مسألة القتل في هذه الدول، التي غالبا ما تتم بأيدي أبنائه وبأسلحة مستوردة خصيصا للاقتتال الداخلي، أصبحت من الاتساع والشمول والتكرار إلى درجة أن الإعلام والناس بصورة عامة أخذوا لا يكترثون بها.
القتل في بعض بلدان المنطقة صار مثل شرب الماء والهواء. القتيل أو الشهيد أو الضحية يسقط أرضا وكأنه حشرة. لا مراسم دفن له ولا شاهد قبر له ولا باقات ورد وبرقيات تعزية. ولا مجموعة من قادة الدول يصطفون للتعبير عن حزنهم ومواساتهم للضحايا وعائلاتهم ودولهم وحكوماتهم. وليس هناك حتى تغطية إخبارية لهم.
والقتل من الشيوع بمكان، حيث أصبح لا يستحق حتى الإحصاء الدقيق. أمريكا في غزوها لأفغانستان والعراق لم يكترث جنودها على الإطلاق إحصاء عدد القتلى من أبناء وبنات هذين البلدين. وهذا يتنافى مع أبسط معايير الأخلاق التي وضعها الغرب ذاته ضمن قواعد الاشتباك.
وإن أردنا معرفة مكانة الإنسان الذي يسقط صريعا أو قتيلا أو شهيدا أو ضحية العنف المستشري في المنطقة، الذي أخذ يأكل الأخضر واليابس في كثير من الدول وليس الناس فقط، فما علينا إلا العودة بعض الأشهر إلى الوراء وإلى القتلى الذين يقارب عددهم أصابع اليدين من الفرنسيين في حادث جريدة "شارلي إبدو" في باريس.
لقد شارك كثير من زعماء المنطقة وممثليهم في تقديم العزاء للعائلات التي فجعت بهذه الجريمة وللحكومة والشعب الفرنسي الذي اهتز برمته من شدة وقعها عليه. ربما لم يبق هناك فرنسي إلا وشارك في المأتم والعزاء وتقديم باقات الورد وحمل اللافتات والخروج في الشوارع معربا عن صدمته وإدانته لعملية القتل، وهي مدانة بطبيعة الأمر.
أطنان وأطنان من الكلام والخطاب استحوذ على شاشات القنوات الإعلامية الشرق أوسطية ونشرات أخبارها والصفحات الأولى لجرائدها جلّه يبدي تعاطفا مع القتلى من الفرنسيين وفي الوقت ذاته يسوده في الغالب محاولة للابتعاد عن التحيز والمحاباة والتقرب من النزاهة والمصداقية.
ولكن إن نظرنا إلى الطريقة التي يتعامل فيها الإعلام في الشرق الأوسط مع الآلاف المؤلفة من القتلى من أبنائه وبناته الذين سقطوا ويسقطون نتيجة العنف المستشري بين المجموعات المحلية المتحاربة، لرأينا أطنان القنابل والتفجيرات ترافقها أطنان وأطنان من الكلام جلّه متحيز، مذهبي وطائفي الهوى لا بل أحيانا عنصري المنحى.
الشعوب في هذه المنطقة لا تئن من ثقل أطنان وأطنان القنابل فحسب بل من وطأة أطنان وأطنان الكلام الذي تجتره القنوات والوسائل الإعلامية الأكثر تأثيرا وانتشارا وترميه على رؤوس المتلقين من القراء والمشاهدين والسامعين، وكأنني بها تقول: إن كل هذا القتل والدمار الفظيع في الشرق الأوسط لا يوازي في قيمته قتيلا واحدا من جماعة "شارلي إبدو".
أطنان من الكلام غايته التجييش الطائفي والمذهبي وكأن الناس لا تنتمي إلى وطن أو كأن مفهوم المواطنة لا وجود له لأن الغالب على الكلام هو الطائفة والمذهب والتحزب.
لا أعلم كيف ينسى الإعلاميون العرب أن الخطاب الإعلامي وحامله وناقله وكاتبه وقائله يقع تحت مسؤولية أخلاقية واجتماعية وثقافية لا يحق لنا المساس بها مهما كان الأمر ولا سيما أننا نتحدث عن أبناء وطن واحد ونتحدث عن شعوب تشترك في قيم كثيرة تتسامى على الفروقات المذهبية والطائفية.
كيف ينسى المسؤولون عن الإعلام أن "من الكلام ما قتل" وأكاد أجزم أن أطنان الكلام التي ينشرونها تقترب في تأثيرها ووقعها على الناس ما تحدثه القنابل والمتفجرات التي تنهال عليهم ليل نهار.
الشر يبدأ بكلمة وكل قتل وظلم أساسه الكلمة لأنها تسبق الفعل وتحث عليه ودونها لما فعل الفعل.
مجموعة بشرية محددة يتم فرزها خارج إطار المواطنة والقيم والأخلاق السامية التي تجمعهم كمواطنين لأنها فقط من لون مختلف. هل هناك وطن في الدنيا وهل هناك مواطنة لا يجتمع في ظلها أطياف وألوان مختلفة؟
كم كان رائعا موقف الإعلام في السويد الذي استمع إلى نصيحة أكاديمية ورفض إطلاق تسمية "مسلم" أو "إسلامي" على العشرات من السويديين الذين التحقوا بصفوف جماعات شرق أوسطية متطرفة تستخدم العنف والإرهاب وسيلة وغاية لها لتحقيق أهدافها.
رغم الضغط الهائل من كل حدب وصوب، يرفض الإعلام هنا ربط هؤلاء بمسألة كونهم مسلمين احتراما لكونهم مواطنين أولا، وثانيا احتراما لمشاعر المواطنة لدى نحو 600 ألف مسلم سويدي. والدولة ترفض سحب جنسيتهم وتبذل ما في وسعها لمداواة جرحاهم ونقلهم إلى السويد للطبابة وعلى حسابها الخاص إن استطاعت إلى ذلك سبيلا. تعاملهم كمواطنين لأن المواطنة لا يسقطها لون وجنس وطائفة ومذهب ودين وميول المواطن.
المسألة ليست أن نتفق أو نرفض موقف السويد، ولكن هذا ربما درس في المواطنة، وأن المواطنة فوق الميول الدينية والمذهبية والاثنية وغيرها، وأنه يجب إنماء روح المواطنة وليس روح المذهب والطائفة والعنصر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي