صحة الإنسان .. ورشاقة المدينة

للإنسان على هذه الأرض حظوة، دلالتها قول الله تعالى في سورة الإسراء "ولقد كرّمنا بني آدم". فالإنسان هو العنصر الحي الرئيس في الحياة التي نعيشها، يؤثر بإمكاناته على نفسه وعلى الآخرين، ويتأثر بالمقابل بهم. هو الذي يفكر ويبدع ويبتكر؛ ويسخر معطيات الطبيعة لمصالحه. وهو في جانب الخير المأمول منه يسلك سلوك الخلق الحسن، ويعمل على إعمار الأرض، ويسعى إلى بناء المجتمعات، ويسهم في عطاء الحضارات.
ولا شك أن المعيار الأساس لدور الإنسان في الحياة هو "صحته"، فهي المنطلق الممكن لتفعيل إمكاناته وشحن نشاطاته. وليس في الصحة بالضرورة طول العمر، فالأعمار بيد الله، ولكل أجل كتاب، لكن فيها جودة الحياة وسعادتها، والقدرة على العطاء وتحقيق الطموحات. وفي غيابها أو ضعفها آثار سلبية كثيرة إنسانية واجتماعية، بل اقتصادية أيضا. وقد أوصانا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم- بالاعتناء بالصحة، حيث قال، "إن لجسدك عليك حقا".
وبين الأقوال الشائعة حول الصحة، عنوان لكتاب ألفه الدكتور جوليان ماكيث، صدر عام 2006، هو "أنت ما تأكل"، و"أنت" تعني "صحتك" وأثرها على إمكاناتك وقدراتك، أو بالأحرى في ذاتك، وفي دورك في الحياة. وسوف نطرح فيما يلي تجربتين مهمتين في "صحة الإنسان ورشاقة المدن"، من كل من دولة فنلندا الأوروبية، ومدينة أوكلاهوما الأمريكية. والغاية من ذلك هي إبراز الأمل في الاستفادة من هاتين التجربتين في العناية بصحتنا وتعزيز رشاقة مدننا.
فنلندا دولة تقع في شمال أوروبا ويزيد عدد سكانها قليلا على خمسة ملايين نسمة؛ وتشتهر عالميا، بالدرجة الأولى، بشركة نوكيا وما تنتجه من أجهزة الهاتف الجوال. لاحظت هذه الدولة الصغيرة في عقد الستينيات من القرن الماضي أن مواطنيها في مقاطعة شمال كاريليا هم الأكثر معاناة من نوبات القلب القاتلة على مستوى الدولة، وعلى مستوى دول العالم بأسره؛ ولم يشمل ذلك كبار السن فقط، بل تضمن أيضا أولئك بين سن الثلاثين وسن الأربعين من العمر.
بدراسة الأمر تبين أن مواطني تلك المقاطعة يعانون من ارتفاع الدهون في الدم وتراكمها على جدران الأوعية الدموية، مع ارتفاع ضغط الدم وتجاوزه للحدود الطبيعية. وتبين أيضا أنهم يعتمدون في طعامهم على اللحوم والأجبان الدسمة والنشويات والسكريات والمأكولات المختلفة المشتقة منها، دون اهتمام بالخضار أو الفاكهة، ودون ممارسة كافية للرياضة والحركة. واستجابة لهذا الأمر برز عام 1972 مشروع صحي مدته خمس سنوات حتى عام 1977، يسعى إلى معالجة المشكلة، وقد أطلق على هذا المشروع اسم "مشروع مقاطعة شمال كاريليا".
سعى المشروع إلى العمل على تغيير نمط حياة الناس، بما في ذلك تغيير نظامهم الغذائي، من خلال تقليص الاعتماد على اللحوم والأجبان والحلويات إلى الحد الأدنى، وزيادة الاعتماد على الخضار والفاكهة؛ إضافة إلى تفعيل النشاط الحركي وممارسة الرياضة. وفي تنفيذ ذلك، اعتمد المشروع على تعاون قوى المجتمع المختلفة، في إطار خطط مشتركة؛ وتشمل هذه القوى: الهيئات الحكومية، وشركات القطاع الخاص، والمؤسسات غير الربحية، والمدارس، ووسائل الإعلام، وغيرها.
أدى نجاح المشروع عام 1977 إلى إطلاقه على مستوى الدولة هذه المرة، وليس على مستوى المقاطعة فقط. ومن النتائج المعلنة بنتيجة ذلك انخفاض حدوث نوبات القلب بنسبة 73 في المائة على مستوى المقاطعة، وبنسبة 65 في المائة على مستوى الدولة، خلال الفترة من عام 1970 وحتى عام 1995.
ونأتي إلى التجربة الثانية الأحدث، وهي تجربة "مدينة أوكلاهوما"، عاصمة ولاية أوكلاهوما الواقعة إلى الجنوب من وسط الولايات المتحدة الأمريكية. تأسست هذه المدينة عام 1889، ويبلغ عدد سكانها حاليا نحو 600 ألف نسمة. وقد احتلت هذه المدينة في مطلع عام 2007 المركز الأول في "السمنة" بين المدن الأمريكية. حتى عمدة المدينة، "ميك كورنت"، الذي ما زال في منصبه حتى الآن، كان مصنفا بين الأشخاص "السمان" في ذلك الوقت.
لم يرق هذا المركز لأهل المدينة ولا لعمدتها، ونتيجة ذلك أطلقت المدينة موقعا على الإنترنت يحمل هدفا تسعى إلى تحقيقه، وهو خفض مجموع أوزان أهل المدينة بمقدار مليون رطل أي نحو نصف مليون كيلو جرام. وبالطبع المقصود بذلك هم أولئك الأشخاص "السمان" أصحاب الوزن الزائد، وبينهم عمدة المدينة. وانطلاقا من مبدأ "أنت ما تأكل" تضافرت جهود القوى الاجتماعية المختلفة في المدينة باتجاه تغيير ثقافة الطعام والتركيز على المأكولات المفيدة ذات السعرات الحرارية المنخفضة، والابتعاد عن تلك الدسمة والضارة وذات السعرات المرتفعة.
وامتد وعي المدينة إلى حقيقة أن تغيير ثقافة الطعام ليس كافيا لتخفيض الوزن والتمتع بالصحة والعافية، بل كان لا بد أيضا من التشجيع على الحركة وعلى الرياضات المفيدة، كل تبعا لسنه وحالته الصحية. وهنا رفع العمدة شعارا هو "إعادة هيكلة المدينة" لتكون "مدينة للناس" وليس "مدينة للسيارات". والمقصود هنا إتاحة الفرصة للناس للتنقل سيرا على الأقدام، والاستغناء عن الاستخدام الدائم للسيارات، خصوصا بين الأماكن المتقاربة. وكانت أولى وسائل إعادة الهيكلة هذه، إقامة أرصفة مناسبة للمشاة على أطراف الشوارع، وساحات ونوادٍ رياضية في الأحياء، إضافة إلى إطلاق مشاريع جديدة لمصلحة فكرة "مدينة الناس".
بعد خمس سنوات من إطلاق هدف خفض أوزان الناس مليون رطل تحقق الهدف وأعلن عن ذلك في احتفال، في مطلع عام 2012، منحت فيه جوائز لمن كانوا سمانا وتحولوا إلى الرشاقة. والأهم من ذلك أن ثقافة الطعام تغيرت، وحركة الإنسان سيرا على الأقدام باتت ميسرة، وباتت المدينة موطنا للرشاقة والصحة، وما يجلب ذلك للإنسان من سعادة. ويقول عمدتها إنها بذلك باتت مركزا جاذبا للمعيشة وللنشاطات الاقتصادية والأعمال المختلفة.
إن قضية الصحة ورشاقة الإنسان، بل رشاقة المدينة، قضية مهمة للجميع. وهناك من حولنا هيئات صحية عديدة تهتم بهذا الأمر وتسعى إلى التوعية العامة بشأنه. لكن الأمر لا يحتاج إلى جهود منفصلة فقط، بل إلى جهود مشتركة، في إطار خطة موحدة تجمع جهود الجميع، كما وجدنا في حالة فنلندا، وفي حالة أوكلاهوما. فصحة الإنسان ليست فقط مسؤولية شخصية بل هي مسؤولية ثقافية اجتماعية متعددة الجوانب، وتقع على عاتق المجتمع بأسره.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي