قمع الموظفين.. أمثلة من واقعنا
تطرقت من قبل إلى موضوع إكرام المرؤوسين من قبل منظماتهم، فذكرت أن من أهم مبادئ القيادة هو "الاعتناء المبالغ فيه بالأتباع". وقد ضربت أمثلة لمن أجاد في استخدام مبدأ إكرام الأتباع ومنهم "شولتز" المدير التنفيذي لمؤسسة ستاربكس. فنتيجة لمبالغته في إكرام من يعملون معه نمت شركته من كافتيريا محلية لها بضعة فروع في سياتل بـ(واشنطن) إلى عملاق قومي له أكثر من ألفي فرع حول العالم وما يقارب ثلاثين ألفا من العاملين.
كما ذكرت أيضا أن «ستاربكس» ليست هي التي بدأت فكرة الاعتناء المبالغ فيه بالعاملين، بل تبناها من قبل ماريوت صاحب ومؤسس أضخم وأنجح شركة فنادق في العالم، وقد اتضح ذلك من جملة بسيطة ذكرها في أحد لقاءاته وهي "إننا نعتني برجالنا من أجل أن يعتنوا بنزلائنا". وماريوت وشولتز لم يكونا عبقريين إداريين كما يروج عنهما، بل فطنا مبكرا إلى مبدأ بسيط من مبادئ القيادة مؤصل في أدبيات الأعمال ويعاد ويكرر في الدورات والمؤتمرات ألا وهو إكرام الرجال الذين يعملون معهما فتحقق لهما ما أرادا.
ونريد في هذا المقال أن نسقط هذا المبدأ على منظماتنا لنرى أين هي من إكرام الرجال وتقدير الأتباع؟ نجد أن قياداتنا تفعل العكس تماما ولا يوجد في فلسفتها الإدارية ما يسمى بمبدأ إكرام الأتباع، بل إن بعض منظماتنا لا يوجد بها نظام للحوافز. فنراها كيف تتباهى في قمع الموظفين حتى وصل الأمر إلى حرمانهم من مستحقاتهم التي يكفلها لهم النظام أو تم الاتفاق عليها في العقد المبرم بين الموظفين وبين الشركة. نرى كثيرا من القيادات تقتر على مرؤوسيها وتفاوضهم وتساومهم، بل تمتن عليهم أنها جعلت منهم موظفين يغدون ويروحون بعد أن كانوا عاطلين محرومين ويرون أن هذا في حد ذاته مكسب للموظف يجب أن يذكره فيحمده.
وهناك قصص وأحاديث وأساطير عن قمع الموظفين تزخر بها بيئاتنا التنظيمية تصدر من قياديين في مؤسسات خاصة وفي منظمات حكومية يتفاخرون بإيذاء مرؤوسيهم ويضيقون عليهم في مصدر معيشتهم، بل يتتبعونهم حتى بعد تقاعدهم.
بعض الموظفين لم يحصلوا على مكافأة منذ تعيينهم حتى تقاعدهم فخارج الدوام والعلاوات التشجيعية والمكافآت المالية حكر على مجموعة يرى فيهم المدير أحقيتهم دون أن يكون هناك معيار واضح لجميع العاملين يبين لماذا يكافأ فلان ولماذا يحرم فلان؟ البعض من الموظفين تأتيهم الترقية على طبق من ذهب، بل تفصل عليهم الوظيفة تفصيلا، بينما آخرون يبقون عقودا ينتظرونها وقد تتأخر إلى نهاية حياتهم الوظيفية.. أليس هذا ظلما عظيما؟
ولم يقتصر الموضوع على المكافآت والترقيات، بل تعداه إلى الاحتقار والشك والمبالغة في الرقابة. فقد بلغ احتقار الموظفين في بعض مؤسساتنا إلى مراقبة خطواتهم وتحسس سلوكياتهم والتشكيك في نواياهم بتفعيل نظام داخلي للجاسوسية والتنصت ونقل الأخبار. ومن ضمن ازدراء الموظفين والنظرة إليهم بدونية توثيق إثبات حضورهم وانصرافهم يدويا ثم آليا باستخدام البصمة. نرى كيف تتفاخر منظماتنا بأنها قد فعلت نظام البصمة لمراقبة حضور موظفيها إلكترونيا ويرون أن هذا تطور إداري بحجة توظيف التقنية، بينما هذه رجعية إدارية وتخلف تنظيمي، بل تصرف لا أخلاقي. وهنا يجب أن نعيد ونكرر أن البصمة ما هي إلا امتهان لكرامة الموظف وتشكيك في أمانته وانتقاص من إنسانيته. فهناك طرق وأساليب عديدة لتقييم ورقابة الموظفين تليق بهم وتدفعهم إلى العمل وبذل الجهد من دون البصمة وقد فصلت في موضوع البصمة في مقال سابق يمكن الرجوع إليه.
والسؤال الآن: لماذا مثل هذا السلوك في التعامل مع الموظفين؟ لماذا يتعمدون هذا الوضع في الوقت الذي ينادي فيه الفكر الإداري التقليدي والحديث بإكرام الموظفين وتحفيزهم. أرى أن السبب الجوهري وراء ذلك هو الجهل بمبادئ قيادة الرجال. فأغلبية القياديين في مؤسساتنا يقودون أتباعهم وفقا لقناعات قديمة ومبادئ موروثة وعادات تنظيمية اكتسبوها من أسلافهم فظنوا أنها نماذج قيادية فعالة. بعض القيادات تظن أنك إذا أكرمت الموظف قلب لك رأس المجن وبدأ يساوم على ما هو أكثر فليس أسلم من استخدام الأسلوب الملزم وتحجيم الطلبات وتقليل المخصصات ابتداء.
البعض الآخر يتذرع بأن نظام الحوافز في المنظمة بشكل عام غير مجزٍ، وادعاء كهذا مردود فالقائد يستطيع أن يحفز موظفيه من دون أن يكون للمنظمة نظام للحوافز. وبإمكانه ابتكار وسائل تحفيزية متواضعة وبسيطة ولكن انعكاسها في معنوية الموظفين عالية جدا. فاحترام الموظف يعد حافزا، والتعجيل بترقيته يعد حافزا، وتنظيم حفلة متواضعة داخل بيئة العمل يعد حافزا.
ولكن هناك مشكلة سائدة في منظماتنا قد تحطم كل محاولة للتحفيز وهي أن بعض القياديين يقصرون الحوافز على ثلة من الموظفين يرون أنهم هم الأتباع الحقيقيون وغيرهم عالة ومرتزقة وهو لا يعلم أن الأولين ما هم سوى متسلقين انتهازيين عرفوا كيف يصلون إليه باستغلال ضعف مهاراته القيادية فتمكنوا منه وأصبحوا يديرونه دون أن يدري. إن التحفيز الانتقائي - أي تحفيز مجموعة من الموظفين وإهمال البقية - أشد خطرا من قمع جميع الموظفين بلا استثناء.
وحتى يتجنب القائد أضرار التحفيز الانتقائي عليه أن يلجأ لقانون العدالة. وقانون العدالة يعنى ببساطة أن يكون هناك معيار للحوافز يعرفه جميع الموظفين ويعلن لهم بعد مناقشته وإقراره من قبلهم فمن فعل كذا استحق كذا ومن لم يفعل لم يستحق. فإعداد نظام واضح ومعلن للحوافز يحقق العدالة بين الموظفين فالعدالة تكسب الولاء وتزيد الانتماء. أما أن يسمح القائد لمجموعة من الموظفين أن يتسللوا من الأبواب الخلفية ويستغلوا قصور مهارته القيادية فتسوق نفسها بأكاذيب وتفصل بينه وبين بقية الموظفين فهذا الذي يؤدي إلى الأمراض الإدارية كالفئوية وانتشار التنظيمات غير الرسمية.
نتمنى من كل من يتقلد عملا قياديا أن يبذل المزيد في فهم مبادئ ونماذج وأساليب القيادة وهي ميسرة وموجودة في أدبيات الإدارة والأعمال وعلى صفحات الإنترنت. فنماذج وأساليب القيادة ليست أسرارا عسكرية ولا بيانات استخباراتية، بل هي منشورة وميسرة ومتوافرة وبعضها مختزلة في عبارات بسيطة يسهل تريددها ومن ثم تذكارها وأهمها وفي مقدمتها إكرام الأتباع.