حملة «نبراس» والتحصين الثقافي للوقاية من المخدرات
تقول الوقائع في كل دول العالم إن المخدرات آفة عجزت الأجهزة الأمنية والجمركية وغيرها عن منعها من دخول البلدان رغم التحالفات والتنسيق والجهود الأممية في هذا المجال، ولذلك فإن المخدرات بجميع أنواعها منتشرة في كل بلدان العالم خصوصا الدول الشبابية الغنية كالسعودية، المصنفة كدولة غنية بفضل الله، ويشكل الشباب النسبة الأعلى من سكانها، وبالتالي فإن الحلول الأمنية، وإن حدت من كم المخدرات التي تدخل البلاد، إلا أنه لا يمكن التعويل عليها منفردة في التصدي لهذه الآفة متعددة المخاطر ولذلك وجب البحث عن مسارات علاجية أخرى.
المسار الصحي للتصدي لهذه الآفة والذي يتطلب تكاليف كبيرة كما هو حال المسار الأمني، أثبت كما تقول الدراسات فشلا كبيرا، إذ إن العلاج يتطلب وقتا طويلا حسب نوع المخدرات حيث يصعب التعافي أحيانا من الإدمان على بعضها، كما أن نسبة المنتكسين من المتعافين دائما ما تكون عالية، والنسب التي تنشر متفاوتة من دولة لأخرى، وبعضها يقول بأنهم أكثر من 80 في المائة. وعادة ما يعيش أهل المتعاطي ومن هم في محيطه في أثناء فترة علاجه حالة من الخوف والذعر والقلق، لذلك يخشونه ويتعاملون معه بحذر شديد، وبعض أفراد أسر المتعاطين تعرض لمشكلات كثيرة كالضرب والطعن بل حتى القتل أحيانا. والمدمن المتعافي قد يعود للتعاطي بعد سنوات طويلة تمتد لأكثر من خمس سنوات.
بقي المسار الوقائي المتمثل في وقاية أفراد المجتمع من الوقوع في تعاطي هذه الآفة وهو المسار الأقل كلفة "درهم وقاية خير من قنطار علاج" إلا أنه كما يظهر في معظم الدول، فإن هذا المسار لا ينفق عليه بما يوازي أهميته وفاعليته، وبالتالي فإن مراكز الدراسات والبحوث المتعلقة بهذه الآفة عادة ما تكون قليلة وغير فاعلة بسبب ضعف الموازنات، كما أن حملات التوعية للوقاية من الوقوع في براثن هذه الآفة ضعيفة للسبب ذاته، وعادة ما تعتمد على الرعايات المتقطعة، ولذلك لا تكون فاعلة لغياب أو ضعف العلمية والشمولية والاستمرارية وتحقيق مبدأ التراكمية المعرفية لدى الأجيال المستهدفة خصوصا الأطفال والشباب، حيث أثبتت الدراسات أن أخطر المراحل التي يمكن أن يقع فيها الإنسان في آفة المخدرات هي في المرحلة السنية من 12 إلى 20 عاما وهو الأمر الذي أوضحه مساعد مدير عام مكافحة المخدرات للشؤون الوقائية عبد الإله الشريف بقوله إن نحو 70 في المائة من مدمني المخدرات، هم من هذه الفئات العمرية.
مشروع "نبراس" وهو مشروع وطني للوقاية من المخدرات جاء لتوحيد الجهود المبذولة في مجال مكافحة المخدرات وبشراكة عدد من الجهات الحكومية والأهلية ذات العلاقة، يفتح الأمل ويعيد لنا التفاؤل للاهتمام بهذا المسار الأهم والأكثر فاعلية وحيوية، كما يبدو لي في التصدي لآفة المخدرات وحماية النشء والشباب منها ومن تبعاتها، وبالتالي يجعلنا نتطلع إلى رصد موازنات أكبر وبشكل سنوي تدعم بشراكات من القطاع الخاص لبذل جهود أكثر واستخدام جميع الوسائل التواصلية من إعلام تقليدي ورقمي وأنشطة تواصلية من مؤتمرات ومنتديات ومحاضرات وورش عمل ومعارض وزيارات للمدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية بل حتى الجامعات.
ونتطلع إلى أن يكون كل ذلك وفق أعلى معايير الفاعلية والكفاءة المتكئة على الدراسات العلمية الحديثة الشاملة المتواصلة، ووفق أعلى المعايير التواصلية من جهة الاستراتيجيات التواصلية والرسائل المدروسة، ومن جهة المضمون المناسب للآليات التواصلية المناسبة لكل وسيلة. كلنا يعلم أن علم التواصل ووسائله وآلياته ومتحدثيه في ظل الانفجار الإعلامي يتطلب جهودا علمية حثيثة لمعرفة تحولاته وأمثل وسائله وآلياتها لنقل الرسالة السلمية في الوقت المناسب لتحدث الأثر المرغوب والمقاس المتمثل في رفع درجة الوعي والحصانة الذاتية ضد المخدرات.
ما سرني في مشروع "نبراس" أنه توجه لاستخدام المعالجات القيمية لرفع درجة حصانة أفراد المجتمع خصوصا الشباب للوقاية من تعاطي المخدرات والوقوع في براثن مروجيها وتجارها، ولا شك أن هذا نوع من المعالجات متعدد المنافع إذ إن رسوخ القيم الأخلاقية ومفاهيمها السليمة يشكل دافعا داخليا للإنسان لاحترام ذاته وتنميتها وصيانتها من المخاطر والزلل والوقوع فيما لا يرضي الله ويشوه السمعة كما يشكل دافعا أيضا لاحترام الغير والتعاون معه لخدمة أفراد المجتمع والوطن وحمايته والتعاون مع الجهات الأمنية للتبليغ عن كل ما من شأنه الإخلال بالأمن، وبالتالي فنحن أمام حملة توعوية متعددة المنافع تعالج المشكلة في عمقها المتمثل في الاختلالات الأخلاقية الناشئة عن ضعف التربية التي عادة ما تكون نتيجة لتفكك الأسرة أو إهمال الوالدين للأبناء وتركهم بيد الخادمات والمربيات.
الجميل أيضا في المعالجات القيمية أنها تعمل على ترسيخ القيم الأخلاقية لدى جميع أفراد الأسرة خصوصا الوالدين لتحمل مسؤولياتهما في التربية والمتابعة والتوجيه والمساءلة وتحسين البيئة الأخلاقية في المنزل. والمسؤولية قيمة حاسمة في التربية حثنا الدين الإسلامي على القيام بها "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، ولذلك أتطلع إلى أن يتم التوكيد على قيمة "المسؤولية" لترسخ في عقول الوالدين لينهضوا بها في جميع الأحوال الأسرية حتى إن وصلت إلى الطلاق.
ختاما، الثقافة تشمل القيم والمفاهيم والمبادئ التي يلتزم بها الفرد في مواقفه وسلوكياته، وكلما رسخت هذه القيم والمفاهيم والمبادئ السليمة الأخلاقية في عقول أفراد المجتمع، كان المجتمع حصينا ضد جميع أنواع التحديات، ولذلك نشد جميعا على أيدي القائمين على "نبراس" للمضي قدما في تحصين مجتمعنا ثقافيا ضد المخدرات وغيرها، سائلين الله لهم التوفيق والسداد، ومتطلعين إلى شراكة كبرى من القطاع الخاص لدعمهم في هذا التوجه الفعال.