مراجعة الذات مسؤولية اجتماعية

في تغريدة على "تويتر" يذكرنا الصديق العزيز "الدكتور عبدالله المديميغ"، مدير جامعة دار العلوم، بقول معبر من تراثنا الإسلامي المنير. هذا القول "للحسن البصري"، الذي عاصر سنوات من القرنين الأول والثاني للهجرة، السابع والثامن للميلاد. والكلمات في هذا القول كالتالي، "لا أظن أن الله يعذب رجلا يستغفر"، قيل له، "لماذا؟" قال، "كيف يلهمه الاستغفار ويريد به أذى". والفصل في هذا الأمر قول الله تعالى في سورة الأنفال "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون".
الاستغفار في حياتنا ابتغاء للصواب ونية في الابتعاد عن الخطأ؛ بل لعله أيضا البحث عن أصوب الصواب، لأن الصواب لا يقتصر دائما على توجه واحد فيما يصادفنا من خيارات الحياة. ولا شك أن من يبتغي الصواب، ويبحث عن أصوب الصواب، يتطلع أساسا إلى رضا الله عز وجل، في كل ما يقوم به من أعمال. فليس الاستغفار كلمة نقولها ونكررها فقط، بل هو شحنة خير في القلب، يصدقها العمل.
في الاستغفار وقفة مراجعة مع الذات، وقفة لتصحيح خطأ وتقويم مسيرة، إن كان هناك فعلا ثمة خطأ؛ فإن لم يكن هناك خطأ، أو كان هناك ولم نشعر به، فإن الاستغفار وقفة تجديد لعهد ابتغاء الصواب واختيار أصوبه. مراجعة الذات هذه مسؤولية على كل فرد منا تجاه نفسه ومسيرة حياته، وتجاه مجتمعه وأمته، بل وتجاه العالم بأسره.
وليست قضية الاستغفار والمراجعة الذاتية قضية دينية أخلاقية وإنسانية فقط، بل إن لها عمقا علميا وتقنيا راسخا. ففي مجال "علم التحكم بالأنظمة"، هناك نظرية علمية مهمة مطبقة عمليا على نطاق واسع، تحاكي موضوع المراجعة الذاتية، وتدعى "بالتغذية الراجعة االسالبة". وتقضي هذه التغذية، كما يحمل اسمها، باستخدام مخرجات النظام في تعديل مدخلاته، من أجل توجيه عمله نحو تحقيق هدفه المنشود، وعدم الانحياز عن هذا الهدف.
ولعلنا نقدم هنا مثالا توضيحيا لهذا الأمر، وليكن هذا المثال في مجال نظام التكييف والتحكم بدرجة الحرارة. فنحن نقوم بتشغيل مثل هذا النظام، ونحدد له درجة حرارة معينة نرغب في الاحتفاظ بها في المكان الذي نجلس فيه. درجة الحرارة هذه هي الدرجة الهدف، أو الدرجة الصواب، التي لا نريد لعمل النظام أن يحيد عنها. ولنفرض للتوضيح أن هذه الدرجة هي "20 مئوية".
تقوم وحدة التحكم بالنظام بمراقبة درجة الحرارة الناتجة، أي المخرجات، وتكشف مدى انحيازها، أو خطئها، عن درجة الحرارة الهدف. وتقوم بعملية حسابية هي طرح هذه الدرجة من الدرجة الهدف لتكون نتيجة الطرح هي قيمة الانحياز أو "الخطأ"، وتأخذ هذه القيمة الاتجاه المعاكس لتغير درجة الحرارة عن الدرجة الهدف. فإن "ازدادت" درجة الحرارة الناتجة إلى "22 مئوية" مثلا، فإن نتيجة الطرح تكون "- 2"؛ وإن "نقصت" هذه الدرجة إلى"18"، فإن نتيجة الطرح تكون "+ 2". أي أن نتيجة العملية الحسابية تعاكس في الاتجاه توجه "الخطأ"، ويقوم جهاز التحكم بأخذ نتيجة الطرح هذه إلى مدخلات النظام من أجل ضبط المخرجات والعمل على إزالة الخطأ.
هذا هو أساس تسمية التغذية الراجعة "بالسالبة". لأنها إذا كانت "موجبة" وجرى طرح الدرجة الهدف من درجة المخرجات، لكان الفرق في اتجاه الخطأ، ولتفاقم الخطأ وازداد الابتعاد عن الصواب المنشود. ويجري مثل ذلك في التحكم بمختلف الأنظمة الأخرى، كالتحكم بمستوى ارتفاع الطائرة عن الأرض عند الرغبة في تثبيت هذا الارتفاع، والتحكم بمدى سرعة السيارة عند استخدام مثبت السرعة، وغير ذلك في مختلف الأنظمة الأخرى.
وإذا عدنا إلى مراجعة الذات، فإن المراجعة السالبة، أو "النقدية"، هي وسيلة لضبط توجهات الحياة نحو الأهداف التي نسعى إليها. فإذا كنا مقصرين في أمر ما، فالمراجعة النقدية السالبة تقضي بمعالجة هذا التقصير، وإن كنا مندفعين أكثر ما يجب في أمر آخر، فالمراجعة النقدية السالبة تقضي بالحد من هذا الاندفاع. وفي حياتنا قضايا كثيرة مؤثرة في مستقبلنا، علينا أن نراجع أنفسنا تجاهها، و"نستغفر الله بشأنها"، ليس لمرة واحدة، بل بشكل متواصل، لنبتغي من ذلك الصواب وتحقيق الأهداف المنشودة.
ولعل بين أبرز القضايا التي تحتاج إلى استغفار ومراجعة نقدية سالبة ومتكررة، قضية قيادة السيارة التي نمارسها كل يوم، التي لا تجد من هو راضٍ عنها، إن كان ذلك بين المخالفين لقوانين السير، أو بين غير المخالفين. والأمر المثير للقلق في هذه القضية، هو ما نشرته "الاقتصادية"، يوم الجمعة 19 رجب 1436 الموافق 8 مايو 2015. في الصفحة 19 تقريرا عن اللقاء العلمي الذي نظمته مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية تحت عنوان "دور التوعية المرورية في الحد من حوادث المرور".
ذكر التقرير أن المملكة تحتل، ومع الأسف، المرتبة الأولى في عدد وفيات الحوادث بالنسبة إلى عدد السكان. فقد بلغ عدد ضحايا حوادث المرور على مدى عقدين من الزمن أكثر من "86 ألف إنسان" أي بمعدل يزيد على "أربعة آلاف إنسان سنويا"، بل إن عدد الضحايا لعام 2011م تجاوز "سبعة آلاف إنسان". أي أن هناك مآسٍي إنسانية كثيرة تسببها حوادث المرور؛ ولا شك أن لهذه المآسي تداعيات لا حصر لها، فلكثير من الضحايا، إن لم يكن جميعهم، مسؤوليات متعددة اجتماعية واقتصادية، بل وتربوية أيضا.
وبالطبع لا تقتصر قضايا حياتنا التي تحتاج إلى "استغفار مخلص ومراجعة ذاتية نقدية فاعلة" على "قضية المرور"، فهناك قضايا كثيرة أخرى تستحق مثل ذلك، سواء على المستوى الاجتماعي، أو المهني. ولا بد لنا أن نعي مثل هذه القضايا، وأن نستوعب جوانبها المختلفة، ونسعى إلى الصواب، بل أصوب الصواب، في التعامل معها، وإيجاد الحلول اللازمة لها.
إن الوعي بقضايا الحياة المختلفة، والمراجعة الذاتية النقدية لها، والتوجه بشأنها نحو الصواب، مسؤولية اجتماعية تقع على عاتق الجميع دون استثناء. ولا شك أن أي إصلاح طوعي ينبع من الرغبة في تطوير الذات، من أجل تقوى الله عز وجل ورضاه، هو إصلاح متجدد وقابل للاستمرار، ويعبر عن مجتمع ناهض يستحق مكانة متميزة بين الأمم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي