صراع الأجيال بين مرجعية «النمطية الاجتماعية» و«الأدلة العقلانية»
أكثر من أب تجاوز العقد الرابع من العمر يعاني وزوجته من أبنائه معاناة شديدة ناشئة عن صراعات أجيال حادة داخل الأسرة بسبب التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية والمعرفية والاجتماعية المتسارعة، حتى إن كثيرا من الوالدين باتوا في حالة من الغضب والقلق المستمرين وفي حيرة من أمرهم، وكذلك أبناؤهم يعانون الصراع ذاته حالة مشابهة. الكل يرى أنه على صواب وأن الطرف الآخر تجاوز حدوده. الوالدان يريان أن الأبناء تجاوزوا حدود الاحترام والأدب والطاعة وعادات المجتمع وتقاليده وقوانين العيب، بل تجاوزوا حتى حدود الله في بعض الأحيان، في حين يرى الأبناء أن الوالدين يريدان أن يكونا العقول التي تدير أجسادهم وكأنهم لا عقول لهم، وأن والديهم يريدون سلب شخصياتهم وحرياتهم وإراداتهم.
الوالدان اللذان تجاوزا العقد الرابع من العمر ولدا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وهو عصر المحطات التلفزيونية المحلية وعصر المجتمع البسيط شبه المنعزل، حيث المحافظة على الأنماط الحياتية الموروثة والمفاهيم الثابتة، وحيث الأبناء يرون الاحترام الكبير للآباء والأجداد والانصياع لآرائهم دون مناقشة من الرجولة والأدب والسمو الأخلاقي وبالتالي فإن العادات والتقاليد تؤخذ كحقائق لا تقبل المناقشة ويبنى عليها الكثير من الأحكام والمواقف والاتجاهات والسلوكيات وإن كانت خاطئة ولا تتلاءم مع تطورات الحياة. وبالتالي فإن صراع الأجيال في عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينات وربما حتى التسعينيات ورغم التطور التقني، لم يكن حادا وإنما كان في حدوده المعقولة كظاهرة اجتماعية تحت السيطرة تماما، وبالتالي لم يهدد كيان الأسرة وتفككها وتكون العداوات والتدابر بين أفرادها.
صراع الأجيال في بلادنا في القرن الـ 21 وخصوصا في السنوات الخمس الأخيرة كما يبدو لي ومما أعيشه وأسمعه ممن حولي، بدأ يصبح حادا نتيجة للتغيرات المادية والمعنوية السريعة خصوصا بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي فتحت الشعوب على بعضها وأنهت حقبة الانغلاق تماما، وأصبحت الأفكار والسلوكيات وأنماط الحياة والتفكير تتنقل بين المجتمعات بشكل سريع حتى بات ما يدور في العالم الافتراضي محفزا كبيرا على تحولات هائلة في العالم المادي الواقعي الذي نعيشه جميعا، وباتت كل العادات والتقاليد والثوابت التي يؤمن بها الوالدان مواليد النصف الأخير من القرن الماضي على المحك، كما بات كثير من الأنماط الاجتماعية محل استهزاء وازدراء وتجاهل، بل بات كثير من الثوابت الدينية الشرعية محل نقاش وتحليل حتى وصل الأمر لمناقشة محتويات كتب شرعية مرجعية مقدسة موثوقة المحتوى بما يوازي تقديس وتنزيه محتوى القرآن الكريم الذي هو الآخر باتت تفسيراته محل نقاش وجدل لكون التفسير جهدا بشريا يحتمل الخطأ ويتأثر بالثقافة السائدة زمن التفسير.
الأبناء من الجنسين يقولون نحن نعيش حياة مدنية فرضت علينا العمل لساعات طويلة كما فرضت علينا التنقل لأوقات طويلة في الزحام، وفرضت علينا كثيرا من الضغوط النفسية والاجتماعية والاقتصادية. كل ذلك يتطلب نمطا اجتماعيا حديثا يتوافق مع معطياتها ومن ذلك ضرورة الترفيه اليومي، والتفرغ الكامل نهاية الأسبوع، والسفر في الإجازة السنوية لتغيير الجو والحد من الضغوط النفسية، ويجب أن يكون ذلك بحرية وإرادة كاملة دون ضغوط عادات وتقاليد وقيود اجتماعية تناسب العقود السابقة. بالتالي نحن أمام تغيير في المفاهيم وأساليب الحياة والتفكير تستدعي التكيّف معها للحفاظ على التوازن وتحقيق الاستقرار، وهنا مدار التصادم والخلاف وعدم الاتفاق حيث تتعدد المسائل والقضايا والمواقف التي يحتدم حولها الصراع المفكك للأسرة.
أذكر واحدا ممن سافر للولايات المتحدة لدراسة الماجستير قال لوالده تنقلت بين الولايات الأمريكية ووجدت ولايات تتجاوزنا بـ 100 سنة وأخرى تتجاوزنا بـ 200 سنة في المفاهيم والقيم وأساليب التفكير والحياة المتوافقة مع معطيات العصر المادية، فهم يعيشون عصر المعرفة بجميع تفاصيله بعد أن تجاوزوا عصر الصناعة وعصر المعلومات، بينما ما زلنا لم نتجاوز في كثير من مفاهيمنا وقيمنا وأساليب تفكيرنا وحياتنا عصر الزراعة، حيث ما زال بعضنا يعيش في عصر البادية التي انتقل بقيمها ومفاهيمها وأساليب حياتها وتفكيرها للمدينة الحديثة، ويطالب أبناءه بأن يلتزموا بها ما جعلهم في حالة من عدم التوازن وجعلهم يعيشون أكثر من شخصية للتوافق مع جميع مكونات المجتمع دون صدام ظاهر بمفهوم "التسليك"، وإن كان بعض الأبناء شرع في الصدام وبدأ يعيش كما يريد بما يتناسب والمعطيات لا كما يريد أبواه أو الآخرون.
صديق خمسيني يقول لي للأمانة أنا في حيرة من أمري حيث إنني أعتقد أن صراع الأجيال أمر طبيعي ومتوقع أن يكون هناك شيء من الخلاف وربما الصدام وعدم الاتفاق على كثير من المسائل والقضايا والمواقف والسلوكيات والمفاهيم والقيم حتى تفسير وتحليل الظواهر والسلوكيات الاجتماعية، حيث يحمل أبناؤنا توقعات وأفكارا ومفاهيم وقيما ومبادئ للحياة غير التي نحملها نتيجة ظروف النشأة وكم المعلومات والمعارف التي يتلقونها والمجموعات التي ينتمون إليها ويتأثرون بها، إلا أنني لم أتوقع أن يكون الصراع حادا جدا لدرجة أنني أصبحت في حالة من التوتر عند الحوار مع أبنائي في أي موضوع وخاصة أنني من جيل اليقينيات والثوابت الكثيرة دون تحليل وأدلة ومن جيل السمع والطاعة، في حين أبنائي يطالبونني بالدليل العلمي العقلاني الذي لا أملكه في كثير من المسائل والقضايا، الأمر الذي جعلني في بحث دائم ومراجعة لكل مفاهيمي وقيمي ويقينياتي وبت في حالة نفسية مضطربة أنا الآخر.
أقول أما وإننا أصبحنا في حالة من الصراع الحاد بين الأبناء المتوثبين للحياة المدنية العصرية بجميع تفاصيلها بحرية وإرادة كاملة وفق أسس عملية وأدلة عقلانية، وبين والدين يريدان فرض آرائهما واحترامهما وتدخلهما في حياة الأبناء وفق الثوابت الاجتماعية الكثيرة، فإنه يجب تدخل الأجهزة المعنية كوزارتي التعليم والشؤون الاجتماعية لمعالجة هذا الصراع المفكك للأسرة بأسرع وقت ممكن، كما عليها أن تنظر لصراع الأجيال الحالي كمشكلة حادة تتطلب التدخل العلمي العاجل.