دعهم ينزفون
الناظر إلى ما يحدث في الشرق الأوسط من بعد يصاب بالإحباط وفقدان الرجاء والأمل. حيثما تجولت بناظريك تلمس رائحة الموت والاضطهاد. وكل يوم يمر يبدو أفضل من حيث فظاعة وبشاعة ما نراه من اليوم الذي سبقه.
الناس تنظر برجاء وأمل إلى المستقبل. أغلب شعوب المنطقة صار لا رجاء ولا أمل لها وتخشى ما يخبئه لها الغد. لن أسترسل في وصف الحالة لأن الكلمات ستخونني حتى وإن كنت حافظا للمعجم عن ظهر القلب.
كل يوم يمر تخسر شعوب هذه المنطقة من رصيدها وتعود بتاريخها إلى الوراء. الفكر والأيديولوجيا السائدة تقترب في كثير من تفاصيلها ما كان سائدا في أوروبا في القرون الوسطى.
بيد أن ما يثير الرعب والخوف هو أن أدوات القتل والاضطهاد والتدمير تختلف اختلافا جوهريا لا سيما في نقطتين بارزتين. الأولى، إنها أكثر وحشية من حيث القتل والفتك، وثانيا كل أدوات القتل هذه مستوردة من الغرب.
الناس في هذه المنطقة يشترون الأدوات لتدمير أنفسهم بأنفسهم. نزيف يبدو أنه لن ينقطع.
وإن نظرت إلى الخطاب الذي يصف الحال، لأصبت بالهلع. هنا لا أتحدث عن خطاب الإنسان العادي، أتحدث عن خطاب قنوات وصحف كبيرة تعد متميزة ذات مكانة وسمعة.
الخطاب الإعلامي العربي صار خطابا للتباكي والعويل والتكرار الممل وإلقاء اللوم على الآخر مستعينا بتاريخ مضى ولن يأتي. هناك صراخ خطابي في الإعلام العربي ونبش للدفين من الضغائن والحقد والكره، الذي لربما كان له ما يبرره في زمانه ومكانه ولكن أصبح خارج سياقه.
الغرب ينظر إلى سياق اليوم واللحظة. شعوب الشرق الأوسط، ومع الأسف الشديد، تنحت في صخر الماضي السحيق كي تحييه وهو لا حياة له.
كلما قرأت مقالا ليس في صفحات الرأي فحسب بل خبرا عاديا، أندهش للكم الهائل من الذاتية وعدم المصداقية وغياب النزاهة في كل حلقة من حلقات الخطاب ابتداء بالمفردة ووصولا إلى الجملة.
يبدو أن معيار النجاح في الصحافة والإعلام في الشرق الأوسط صار تكديس الإساءات والألفاظ غير الحميدة تجاه ما نراه خصما لنا وإظهاره بمنظر سلبي، متكئين أولا على كل ما تضعه اللغة تحت تصرفنا من تراكيب لفظية غير حميدة، وباحثين عن مثالب وإهانات من خلال استنطاق التاريخ وبث الحياة في الكثير من رموزه الميتة.
ولهذا يفتقر إعلام الشرق الأوسط ومعه الخطب والتصريحات والبيانات السياسية إلى المبادرة. المبادرة ــــ اقتراح لحلحلة الأزمات ووقف النزيف ــــ لا تخطر ببال المتصارعين رغم أن جلهم إخوان وأشقاء ومن دين واحد وثقافة واحدة.
الهجوم ثم الهجوم ثم الهجوم. أولا بالأسلحة، ما استطعنا إليها سبيلا وما منَّ الغرب علينا بها، ومن ثم بالخطاب لتعرية الآخر، وننسى كلنا إننا عراة طالما لا نشغل عقلنا لإطلاق مبادرات كي نطفئ النار حولنا.
مشكلة شعوب الشرق الأوسط تكمن في تصورها أنها لا تتأثر بما يحدث لغيرها. هذا خطأ. ما يحدث في أي بلد شرق أوسطي لا بد أن يعكس وبدرجات متفاوتة على الآخرين.
ولهذا يهرع الأوروبيون لإخماد النيران في قارتهم ويقدمون المبادرة تلو المبادرة ويعقدون الاجتماعات لإطفاء الحرائق التي قد تشب في أي منطقة من مناطقهم. التاريخ علمهم درسا لن ينسوه أبدا: ما يحدث لبلد أو شعب من شعوبهم لا بد أن يصيبهم.
هناك الكثير مما يمكن أن يتعلمه الشرق الأوسط من الغرب في السياسة وتقديم المبادرات. الغرب يضع منفعته الآنية وليس المستقبلية فحسب فوق كل اعتبار ولا يفكر في الماضي. إنهم يقرأون الفلسفة الكودوينية التي تقول ليس هناك أخ لي في الدين والمذهب والقرابة والعشيرة والتاريخ. أخي هو من ينفعني.
ولهذا إن اشتعلت النار بدار فيها رجلان، واحد قديس وصالح تجري على يديه المعجزات والآخر لص وقاتل ومنتهك للأعراض، وكان على الغرب أن ينقذ واحدا منهما، فإنه سينقذ الذي لديه مصلحة في أن يبقى على قيد الحياة وإن كان اللص. إن كان إنقاذ اللص سيدر على الغرب منفعة وربحا فسينقذه وليذهب الرجل الصالح إلى الجحيم.
الغرب لا يتورع أن يحارب منظمة أو مجموعة شرق أوسطية لأنها في رأيه تمثل الإرهاب في هذه المنطقة، بيد أنه يغدق على المجموعة الهبات والأسلحة ويعتبرها معتدلة ومدافعة عن حقوق الإنسان في منطقة أخرى. مصالحه ومنافعه وليس الدين والأخلاق والمذهب والعشيرة والتاريخ هي التي تقرر الموقف والمبادرة!
ما يحدث في الشرق الأوسط حاليا لم تكن له منافع للغرب بهذه الدرجة من الأهمية في التاريخ الحديث برمته. كل هذا النزيف والمجموعات الشرق أوسطية التي لا يكن لها الغرب أي ود تقاتل بعضها بعضا وبشراسة منقطعة النظير، والغرب ينظر من علو وبعد وبغبطة وسرور.
"دعهم ينزفون"، لسان حاله يقول، "دعهم ينزفون".