رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الكل أكبر من مجموع الأجزاء؟

ينقل عن "أرسطو"، المفكر الإغريقي القديم الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، قوله: "الكل أكبر من مجموع الأجزاء". فهل يمكن أن يكون هذا صحيحا؛ هل يستطيع "الكل" أن يتجاوز إمكانات "الأجزاء" المكونة له. إثبات هذا الأمر نجده متمثلا في رواية عن أحد الشعراء العرب، يقال إنه "المهلب بن صفرة"، قائد جيش المسلمين الذي وصل إلى بلاد السند في القرن الأول للهجرة، السابع للميلاد.
يروى عن الشاعر أنه عندما أشرف على الوفاة، استدعى أبناءه السبعة، وطلب إليهم إحضار رماحهم، وقام بجمع هذه الرماح السبعة في حزمة واحدة. وطلب إليهم كسر هذه الحزمة فلم يستطيعوا ذلك. ثم قام بفك الحزمة، وأعطى لكل منهم رمحه، وطلب منهم كسر الرماح فتكسرت بين أيديهم دون عناء. عندئذ قال لهم: "تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا
وإذا افترقن تكسرت آحادا"
وأوصاهم بالإتلاف والتعاضد، ونهاهم عن الاختلاف والتفرقة.
حزمة الرماح هنا تمثل "الكل" الذي أشار إليه "أرسطو" والرماح هي "الأجزاء"، والكل هنا استطاع أن يتجاوز الأجزاء في قوته ومناعته. ولا شك أن شاعرنا متأثر في قصته مع أولاده بنشأته الإسلامية وقوله تعالى في سورة الأنفال "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"، وقوله تعالى في سورة آل عمران "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا".
وعلى صعيد حياتنا على أرض الواقع نجد أمثلة كثيرة على صحة مبدأ "الكل أكبر من مجموع الأجزاء". فالعمليات الجراحية في المستشفيات تحتاج إلى فريق عمل متكامل، يشمل الطبيب الجراح والطبيب المخدر إضافة إلى عناصر المساندة الأخرى، كي تكون العملية قابلة للتنفيذ. فكل من أعضاء هذا الفريق يقوم بمهمة تكمل مهمات الآخرين في تنفيذ العملية الجراحية المطلوبة، ولا تفيد هذه المهمات، إن انفصلت في تحقيق الهدف المنشود. وما ينطبق على العمليات الجراحية ينطبق أيضا على عمليات البناء بأشكالها المختلفة. فمشاريع البناء العمراني، ومشاريع بناء المصانع، وبناء المؤسسات، وغير ذلك من مشاريع البناء، تحتاج أيضا إلى فريق عمل متكامل، يشمل المهندس المسؤول ومساعديه التنفيذيين من أصحاب الخبرة في العمل ومن العمال في مجالات البناء والتشييد المختلفة. فلكل من هؤلاء مهمة مطلوبة تتكامل مع مهمات الآخرين لتحويل البناء من رسومات على الورق إلى حقيقة ملموسة.
وهناك، في هذا المجال، قول معبر مأثور آخر صدر عن "هيلين كيلر"، الكاتبة الأمريكية العمياء الصماء التي اشتهرت على نطاق واسع في القرن العشرين. والقول هو: "نعطي القليل عندما نعمل منفردين، ونعطي الكثير عندما نعمل معا". ويعزز هذا القول قول "الكل أكبر من مجموع الأجزاء"، ويوضح معناه ويزيد من سعة رؤيته.
وهناك في الاقتصاد نظرة إلى الحياة تستند إلى "اختلاف قدرات البشر ومجالات تميزهم"، وإلى الفوائد المرجوة من تكامل هذا التمايز، إن هم تعاونوا وتعاملوا بالحسنى معا. وتتمثل هذه النظرة في تعبير "اليد الخفية" الذي ذكره المفكر الاقتصادي الإنجليزي "آدام سميث"، الذي عاش في القرن الثامن عشر للميلاد، في كتابه الشهير "ثروة الأمم". مضمون هذا التعبير أن اختلاف إمكانات الناس ومجالات عملهم يعطيهم فرصة تبادل المنافع في إطار عيش مشترك مرض للجميع، إن هم تعاونوا بما يجب أن يكون التعاون، وكأن "يدا خفية" تنظم ذلك وتديره.
ونظرا لبعض الصفات البشرية، ثبت أن "اليد الخفية وحدها لا تكفي" للتعاون والتعامل المأمول وتحقيق العيش المشترك المرضي للجميع. لذا كان لا بد للمجتمعات والدول حول العالم من تعزيز عمل اليد الخفية بإجراءات منظمة للتعاون والتعامل وتفعيل الاستفادة من تمايز صفات البشر، إلى جانب سلطة تدير تنفيذ هذه الإجراءات، من أجل تمكين التقارب والتعاون بالشكل المناسب للعيش المشترك المأمول.
ولا شك أن في الصفات البشرية، إضافة إلى ما سبق، صفات أخرى يمكن أن "تعزز عمل اليد الخفية" بالشكل المطلوب. هذه الصفات لا تحتاج إلى إجراءات تدير تنفيذها سلطة، بل تتضمن التزاما ذاتيا بالتعاون والشراكة في العمل، بخلق حسن، وبعدل وتفاهم، دون استغلال، ودون مطامع تفسد العيش المشترك. ولا شك أن في ذلك ترسيخا لمبدأ "تقوى الله"، وطاعة الله تعالى الذي يقول في سورة آل عمران "فإن الله يحب المتقين".
وهناك في قضايا الشراكة في الأعمال والعيش المشترك توجهان رئيسان. توجه "شخصي" يركز على مصلحة الفرد صاحب العلاقة، بصرف النظر عن أي مصلحة أخرى؛ وتوجه "مجتمعي" يركز على مصلحة العيش المشترك المرضي للجميع، أو بالأحرى مصلحة المجتمع. ويتمتع كل من هذين التوجهين بأهمية كبيرة في حياة الإنسان. الإنسان بالمنطق يريد مصلحته الشخصية، وهو بالمنطق أيضا يريد مجتمعا ناجحا من حوله. وعلى ذلك فإن السعي إلى جمع توجه المصلحة الشخصية مع توجه مصلحة المجتمع يبدو توجها ملائما يتحقق فيه العيش المشترك المطلوب.
وإذا كان التوجه نحو مصلحة المجتمع مرضيا للجميع لأنه يؤمن لهم البيئة المناسبة للحياة، فإن جانب التوجه الشخصي ليس كذلك، لأن في بعضه منافسة وتضاربا في المصالح. وهنا لا بد من ضبط هذا التنافس بالالتزام والتقوى، وكذلك بالتشريعات والإجراءات والسلطة أيضا. ولعلنا نذكر هنا أن علينا في تنفيذ شراكة الأعمال وتبادل المنافع، أن نعتاد على مبدأ "الكل رابحون" بدلا من مبدأ "الغالب والمغلوب". في الأول الفرص للجميع، وكذلك عدالة التعامل والتنافس، ولكل دور بلا استغلال أو طمع. وفي الثاني توتر في المجتمع يعود بالضرر المباشر وغير المباشر على الجميع.
منحنا الله التمايز في القدرات وفي المهارات، وفي ذلك خير لنا جميعا. فقدرات ومهارات أي فرد منا تمكنه من أشياء يحتاج إليها، لكنها لا تمكنه من أشياء أخرى يحتاج إليه أيضا. ولا بد له لتأمين كل ما يحتاج إليه من أن يعطي مما لديه، كي يأخذ من الآخرين. وعليه عندما يجد من ينافسه فيما يعطي، أن يطور نفسه، وأن يبدع وأن يبتكر، ليكون أكثر قدرة على العطاء. كما أن عليه في الأخذ والعطاء، وكذلك في التنافس مع الآخرين، أن يكون عادلا متقيا لله، فبذلك نبني مجتمعا سليما "الكل فيه أكبر من مجموع الأجزاء".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي