وأخيرا غلبني الغراب

لقد انهزمت شر هزيمة. لم يكن ذلك في سجال وحوار فكري مع نظراء لي في الأكاديمية ولا مع قراء أذكياء برهنوا على عدم صواب ما كتبته. هزيمة مثل هذه أراها فخرا لأنها تلقنني درسا وأتعلم منها كثيرا.
بيد أن الذي قهرني وفي هذا الشهر بالذات كان "الغراب"، وهو طائر أسود لم يغادر قطعة الأرض التي لا تزيد مساحتها على 200 متر مربع التي خصصتها لي البلدية في مدينتنا لغرض زراعة الخضراوات والمحاصيل والزهور، إلا بعد أن اقتلع وأكل كل البذور التي زرعتها هذه السنة.
حاولت كل الحيل لإبعاده عن مزرعتي، ولكن جميعها باءت بالفشل. السبب واضح: في السويد الطيور والحيوانات برية كانت أو أليفة لها حقوق. هناك واجبات، ولكن الواجبات لا تقع على الطيور والحيوان. الواجبات تقع على الإنسان.
عندما كشفت عن ألمي وإحباطي وحزني على ما يقوم به هذا الغراب لجمعية تعنى بالطيور هنا، نصحني أحد أفرادها أن أتجنب إلحاق الأذى بالغراب. وحذرني من قتله قائلا إن من شأن ذلك أن يضعني تحت طائلة القانون وربما أمضي فترة في السجن إن أقدمت "على هذه الخطوة غير الحكيمة".
كلامه صحيح. في الشتاء الماضي شاهد ممارسو الرياضة في إحدى الضواحي فرسا صغيرا ميتا عليه آثار ضرب بآلة حديدية. اهتزت المدينة وصار الفرس الصغير حديث الإعلام لأكثر من أسبوع، وفتحت الشرط تحقيقا في الحادث.
ما شدني كان التأثر الكبير الذي تركته عميلة القتل هذه على الأطفال، حيث أمّ الكثير منهم مكان الحادث واضعين باقات من الزهور حزنا على الحيوان الصريع.
وأنا أيضا حزين على مزرعتي الصغيرة. الموسم الزراعي هنا قصير جدا وقد لا أستطيع تعويض زراعة حبوب بعض المحاصيل التي أكلها الغراب لفوات أوانها.
والمزرعة جزء من حياتي هنا. تمدني تقريبا بجميع الخضراوات التي أحتاج إليها على مدار السنة من الباقلاء والفاصوليا والبازلاء والخس والطماطم وأنواع القرع منها اليقطين، والبطاطس والكرفس والبصل والثوم والسلق والسبانخ.. وكي لا أطيل فإن مزرعتي الصغيرة هذه تزودني بنحو 30 نوعا من الخضراوات المختلفة.
نستخدم الخضراوات هذه طوال فصل الصيف، وما يزيد نخزنه في المجمدة أو في المخزن للشتاء. وخضار المزرعة لذيذ جدا لأنني لا استخدم أي مواد كيماوية على الإطلاق في كل مراحل زراعته.
عندما أتحدث عن هذا لبعض أصدقائي في الشرق الأوسط، يأخذهم الذهول ويصعب عليهم تصديقي، ولكنها الحقيقة.
بيد أنه يبدو أن الغراب مصر على حرماني من متعة الزراعة والحصاد هذه السنة. وأظن أنه غراب الزَّرع، وهو فصيلة تعيش في الغالب ضمن أسراب.
عادة تجتاح أسراب الغربان منطقتنا قبل فصل الربيع وتغادرنا قبل أن نبدأ الزراعة. إلا أن أفرادا منها لضعفها أو كبر سنها أو مرضها لا تهاجر مع أسرابها وتبقى تعتاش على ما تقع عليه مناقيرها. وهذا الغراب يبدو أنه رأى في مزرعتي ضالته.
نصحني أحد الأصدقاء أن أنصب له فزّاعة عله يهابها ويغادرني ومزرعتي بسلام، إلا أن الطائر لم يكترث أبدا للفزّاعة.
الطيور والحيوانات هنا لا تهاب البشر ولا بعضها بعضا. على العكس، فإنها تستأنس لوجود البشر وتتقرب إليهم. كل حيوان أو طائر يعد ضمن فصيلة الحيوانات والطيور الأليفة. أنت لا تستطيع أن تنهر كلبا أو غزالا أو أرنبا أو طائرا حتى وإن خيّم بالقرب من بيتك وإن كان حيوانا مفترسا.
مزارع سويدي حكم عليه بالسجن وغرامة كبيرة لأنه قتل ذئبا كان قد افترس عددا كبيرا من خرافه.
كل الحيوانات والطيور والأسماك بأنواعها مسجلة من ضمنها المهاجرة. أما الحيوانات والطيور والأسماك المستوطنة، فهذه فيها إحصائيات دقيقة مع معلومات مفصلة عن أماكن تواجدها ومواسمها. والصيد لا يجوز إلا برخصة تُحدد العدد والمكان. والحصول على الرخصة مكلف جدا.
وأدوات الصيد محددة بقانون. والصياد عليه استخدام بنادق محددة ورصاص معين وعليه التصويب ضمن نطاق التعليمات التي يتسلّمها.
فمثلا، السويد لا تسمح بأن ينقص عدد الظبيان في سهولها وغاباتها عن نحو 750 ألفا. الصيد يكون كل سنة ضمن نطاق الزيادة السنوية في عدد الظبيان وفي موسم غير موسم الحمل والولادة.
أنا على بينة من مكانة الحيوان والطيور والسمك في هذا البلد. القادم للسويد بعد حصوله على رخصة عمل أو إقامة دائمة، يمنح كراسا باللغة التي يجيدها. الكراس يبدأ بالنصائح. أول نصيحة فيه: اترك الحيوانات والطيور بسلام.
وأنا سأترك الغراب الذي أقض مضجعي هذه السنة بسلام وأمري لله.