إلى الطلاب والطالبات: أقلعوا عن دراسة الطوارئ

يواجه كثير من الطلاب والطالبات عدة أمور ومشكلات، كالنسيان، وقلة التركيز، والتشتت. كما يعانون أمراضا عضوية مبكرة لم تكن في أسلافهم كضغط الدم المبكر، والسكري، وقرحة المعدة، والغدة الدرقية، إضافة إلى التهاب القولون. وقد اعتدنا أن نرى مثل هذه الأمراض تعترض الإنسان بعد سن الأربعين، إلا أنها أصبحت تصيب الشباب اليافعين، ويتضح أن وراءها ضغوطا نفسية من توتر وقلق وخوف.
وقد لاحظت مثل هذه التأثيرات في طلاب الجامعات، وأرى يوميا هذا الشرود والتشتت وقلة التركيز بين الطلاب. وظللت أتساءل عن أسباب كل هذا، فاتضح لي أن لديهم ثقافة متوارثة في الاستذكار لعلها تكون سببا جوهريا لموجة الضياع هذه. يظل الطالب متراخي الجسم، متباطئ الخطى، لا يبذل أي مجهود يذكر خلال الفصل الدراسي حتى تحين ساعة الصفر. فقبيل الاختبارات بأيام بل وأحيانا بسويعات تبدأ حالة الطوارئ فيلملم أوراقه، ويجمع قواه، ويقبل على الاستذكار بوعي وبدون وعي ويظل طوال أيام الاختبارات وهو شارد الذهن، محطم الأعصاب، مشدود الضمير وقد يضطر إلى تناول مهدئات بل وأخطر من المهدئات.
وهذه بالفعل مأساة تحتاج منا جميعا إلى وقفة، لذا سأسهم ببعض ما عندي، ولعل الجهات المعنية تبذل ما لديها وتدرس هذه الظاهرة لتعرف مسبباتها وأعراضها. أرى أن الخروج من كل هذا يتمثل في اتباع طريقة الاستذكار المثلى، التي يجهلها غالبية طلابنا. وحتى تتضح فكرتي أكثر سأبين خطوات نقل المعلومة في الذاكرة، أي كيف تتعامل الذاكرة مع المعلومات. يجب أن يعلم الطالب أن المعلومات والمعارف تدخل إلى عقل الإنسان ثم تستقر في البداية في الذاكرة قصيرة المدى، وعندما لا يستذكرها الفرد ولا يعيد تكراراها فإنها (المعلومات) ما تلبث أن تنسى وتحل محلها معلومات أخرى. ولكن عندما يتم تكرارها بشكل دوري فإن الذاكرة المؤقتة لا تتحمل كما هائلا من المعلومات التي تكرر باستمرار فتنتقل المعلومات إلى الذاكرة طويلة المدى وتستقر فيها. ومن خصائص الذاكرة طويلة المدى أن لديها قدرة على استحضار واسترجاع المعلومات بسرعة وبشكل عفوي وبمجهود قليل.
إذا الأداة الوحيدة لنقل المعلومات من الذاكرة المؤقتة إلى الذاكرة الدائمة هي التكرار والتدريب وإعادة استخدام المعلومات، وهذا يعني أن على الطالب إعادة وتكرار المعلومات وأن يقوم بهذا مبكرا وبشكل منتظم. فعلى سبيل المثال مادة دراسية مدتها ثلاث ساعات يتلقاها الطالب في المدرسة أو الجامعة لا شك أنه سينساها إذا لم يقم بمراجعتها مبكرا وبطريقة تتفق مع عمل الذاكرة. يقول كيفين ــ صاحب خطوات عمل الذاكرة السالفة الذكر ــ إذا أراد الطالب أن يثبت المعلومات في ذهنه 500 في المائة، فعليه أن يراجع المادة العلمية بعد انتهاء المحاضرة مباشرة بثلاث دقائق، حيث يقوم بترسيخ أركان المادة والمعلومات الأساسية. ثم يراجع محتويات المحاضرة نفسها بعدها بساعة ثم بعدها بيوم ثم بأسبوع، وقد يحتاج إلى أن يعود إليها بعد شهر أو شهرين حسب حجم المعلومات وكميتها وتعقد العلاقات. وهذه المراجعات المتتالية لا تستغرق أكثر من 40 دقيقة يوميا، بينما يبذل ساعات من الاستذكار إذا أجل المادة العلمية إلى أيام الاختبارات.
وهذه الطريقة ليست حكرا على الطلاب والمتعلمين، بل هي سجية العلماء والمبدعين والعباقرة على مر التاريخ. يقول توماس أديسون "العبقرية عبارة عن 1 في المائة إلهام و99 في المائة عرق وجهد" وقد أعقبه عبقري الكمان والملحن الإسباني الشهير بابلو ساراسات عندما سئل عن سر إبداعاته فقال "ظللت أتدرب 20 ساعة يوميا لمدة 37 عاما". إذا كل ما كان يفعله العباقرة أنهم يسيرون حسب آلية عمل الذاكرة فيكررون المعارف ويعيدون الدروس ويتدربون على الفنون ولا يستعيبون ذكر ذلك لنا.
أرى أن الشيء الذي أهلك طلابنا وجلب لهم الأمراض مبكرا وقضى على مواهبهم أنهم يسيرون عكس تركيبة الذاكرة التي خلقها الله، بعدم اتباع الطريقة العلمية للاستذكار عن طريق تكرار المعلومات حتى تنتقل من الذاكرة المؤقتة إلى الذاكرة الدائمة. فنجد غالبية طلابنا يتبعون دراسة الطوارئ عند استذكارهم منذ دخولهم الصف الأول الابتدائي حتى تخرجهم في الجامعة. ودراسة الطوارئ تعني أن الطالب يؤجل دروسه واستذكاره إلى قبيل الاختبار بيوم أو يومين، بل إن بعضهم لا يستذكر دروسه سوى قبل الاختبار بساعات، والعجيب أنهم يتباهون بذلك ويرون أنهم مبدعون حينما يستطيعون أن يلموا شتات المادة العلمية قبيل الاختبار بساعات. وهم لا يعلمون أنهم بأسلوبهم هذا لا يحصلون على المادة العلمية فحسب، بل تجلب عليهم هذه الطريقة (دراسة الطوارئ) الأمراض لأنهم يستذكرون تحت عامل الوقت وهذا يضعهم تحت الضغط، الذي بدوره يسبب لهم القلق والتوتر ومن ثم يظهر ذلك على شكل أمراض عضوية.
إن دراسة الطوارئ هذه تجعل الطالب قلقا طوال العام لأنه يعرض نفسه لعامل الوقت فتتراكم عليه عدة مواد في زمن محدد وعليه أن يلم بها فلا يدري بأيها يبدأ. فلو افترضنا أن طالبا سجل ست مواد خلال الفصل، وعليه أن يقدم ثلاثة اختبارات لكل مادة ــ اختبارين لأعمال السنة واختبارا نهائيا ــ ناهيك عن البحوث والواجبات وغيرها، فإن اتبع دراسة الطوارئ فسوف يواجه 18 حالة ضغط نفسي وعصبي عنيف خلال الفصل الدراسي الواحد أي 36 حالة ضغط خلال العام.. أي نفس بشرية تحتمل كل هذا؟!
نقول لطلابنا وطالباتنا ــ ونحن على مقربة من الاختبارات النهائية ــ إن عليهم أن يتتبعوا الطريقة العلمية في الاستذكار التي تتفق مع آلية عمل الذاكرة. كما نتمنى من المسؤولين في الجهات التعليمية أن يبصروا الطلاب بالآليات المناسبة لتلقي العلم، وأن يعيدوا تصميم البرامج الأكاديمية بما يحقق هذه المهمة حتى لا نفاجأ بعد حين من الوقت وقد أصبح لدينا جيل ضعيف، مريض، واهن يحمل مؤهلات عليا وما هم سوى طبول جوفاء خالية من أبسط مبادئ العلم والمعرفة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي