الأجهزة الرقابية .. وقدرتها الإدارية
لقد كان واضحا الاهتمام البالغ الذي أولاه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان لدور الأجهزة الرقابية عندما وجه بتطويرها. يأتي هذا التوجيه متوافقا مع جميع الأوضاع الحالية سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، ومع بروز سؤال مهم عن قدرة الأجهزة الرقابية في المملكة على دعم القرار الإداري في جميع هذه المستويات، وقدرتها على الحد من سوء استخدام السلطة وإدارة الموارد. فنظرا للتغيرات الحادة التي تواجه السوق النفطية وآثارها في ميزانية الدولة، مع كثرة مشاريع التنمية وتوسع رقعتها وضخامة الإنفاق عليها، مع تنامي ظاهرة تعثر المشاريع والادعاءات المتكررة بوجود فساد وسوء تصرف إداري، فإن الجميع يشعر بالحاجة الماسة إلى تطوير هذه الأجهزة، وأنها بهذا الوضع الحالي لم تعد قادرة على تلبية متطلبات عملية صنع القرار وضمان دقة المعلومات. ولهذا فإننا جميعا نتفق على أهمية تطويرها والمسارعة فيها، وأن أي تأخر في ذلك يعني أن تتضخم فاتورة التغيير في المستقبل. كل هذا واضح ونعيه تماما، لكن القضية الرقابية أكبر من مجرد جهاز رقابي.
لقد تحدثت سابقا وكثيرا عن موضوع الأجهزة الرقابية وخاصة ديوان المراقبة العامة، والدور الرقابي الذي يباشره مجلس الشورى، كل هذا موجود في أرشيف المقالات في "الاقتصادية"، لكني اليوم أصبحت أميل إلى أن المشكلة الرقابية في المملكة أكبر من مجرد خلل في جهاز، بل هي خلل المفهوم الرقابي كاملا، الذي يحتاج إلى غربلة وتطوير. فإذا ذكرت الرقابة في القطاع العام (بهذا المفهوم المطلق)، فإن تفكيرنا الإداري ينصرف فورا إلى الأجهزة الرقابية فقط وهنا المشكلة. لقد تطورت مفاهيم الرقابة كثيرا مع نهايات القرن الماضي، وعملت عدة مؤسسات دولية على تطوير هذا المفهوم، ونشطت في ذلك بشكل لافت خلال العقد الأول من القرن الحالي، لعل أهم هذه التطورات هو التحول في مفهوم الرقابة في اتجاه الأخطار، الذي قاد إلى نموذج خطوط الدفاع الثلاثة، ومن المدهش أن تجد الأجهزة الرقابية في خط الدفاع الثالث وليس الأول. وإذا كانت هذه هي الحال فإننا ونحن نحصر الرقابة في المفهوم التقليدي بعيدا عن الأخطار وأيضا في الأجهزة الرقابية فقط، فإننا فقط بعيدون جدا عن المفاهيم الحديثة، وفي أحسن الأحوال فإننا نعمل على الخط الثالث، بينما الخطوط الدفاعية الأولى مهملة وهي الأهم.
من المستحيل اليوم أن تتحدث عن مفهوم الرقابة "كجهاز"، بل هي منظومة متكاملة لمواجهة الأخطار، لقد أصبحت الأخطار بكل أنواعها القضية الأساسية التي تهتم بها أنظمة الرقابة، ولهذا فإن نموذج الخطوط الدفاعية الثلاثة يميز بين ثلاث مجموعات تشارك جميعها في إدارة فعالة للأخطار وهي (1) الوظائف التي تباشر الأخطار وإدارتها (الإدارة التنفيذية)، (2) الوظائف التي تشرف على إدارة الأخطار (المكلفين بالحوكمة)، (3) الوظائف التي توفر تأكيدا مستقلا (الأجهزة الرقابية والمراجعة). فلم تعد الرقابة مجرد قضية مراجعة خارجية مستقلة للعقود، ولم تعد تدقيقا للمستندات، لم تعد قضيتها كم المبالغ التي تم استردادها لخزانة الدولة، بل أصبحت أعمق وأكثر دقة، وهي تبحث عن الأخطار وتحللها وتديرها وتحدد المسؤوليات عن ذلك بدقة.
من المهم إذا أن نعي أن تطوير الرقابة في المملكة سيتضمن حتما دورا للإدارة التنفيذية، التي سيقع عليها عبء إعادة صياغة مفهوم الرقابة باتجاه الأخطار، وأن تصبح الإدارة التنفيذية خط الدفاع الأول في مواجهة الأخطار، فعليها مسؤولية بناء وتشغيل نظام الرقابة الداخلية في المؤسسات بمختلف أنواعها. يأتي بعد ذلك دور مهم لبناء الحوكمة في الجهات المختلفة، وهذا يعني أن يصبح لدى كل جهة حكومية مسؤولون للإشراف على بناء وتنفيذ نظام الرقابة الداخلية وإدارة الأخطار، وهذا هو خط الدفاع الثاني، الذي يحتم علينا بناء قواعد واضحة للحوكمة في المؤسسات الحكومية وتحديد المسؤولين عن الحوكمة، الذين لديهم استقلال واضح عن الإدارة التنفيذية، وتكون لديهم وفقا لهذا التصور مسؤوليات الإشراف على أعمال الإدارة التنفيذية وليس مباشرتها. بعد ذلك يأتي خط الدفاع الثالث، الذي يتمثل في دور الأجهزة الرقابية الخارجية مثل ديوان المراقبة العامة والهيئات الرقابية الأخرى، والأهم من هذا هو بناء دور المراجعة الداخلية في هذا الخط الدفاعي. هكذا يمكن إعادة بناء وصياغة مفاهيم الرقابة في المملكة، ودون ذلك ومع إغفال الحاجة إلى إدخال مفهوم إدارة الأخطار في العمل الحكومي، وبالتركيز فقط على الأجهزة الرقابية، فإن ما سيتم تطويره لن يمس سوى قشور الظاهرة الرقابية في المملكة دون جذورها.