رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


هل يمكن أن يتعلم العرب من الصين؟

لوحات الإعلان في جامعتنا تزينها مقولة سويدية باللغتين الإنجليزية والسويدية. هذه المقولة إن كانت صحيحة فإنها تنسف الكثير من المواقف والأفكار التي أتت ضمن هذا العمود حتى الآن.
المقولة تدعو الطلبة إلى عدم مقارنة أنفسهم بالآخرين. "عليك الكف عن مقارنة نفسك بالآخرين من اليوم" تحث المقولة الطلبة، وتضيف: "الآخرون كثيرون وهم ليسوا أنت. أنت ستكون في أفضل حال لو فكرت في نفسك".
هرعت إلى أستاذ علم النفس في الجامعة وقلت له: "ما هذه المقولة. في محاضراتنا نستند كثيرا إلى المقارنة والمقاربة لمعرفة واقع المجتمع وتفسيره ومن ثم إدراك كيف يعمل بغية إصلاحه وتطويره".
رد الأستاذ: "هنا نتحدث عن الطلبة كأفراد. وهذا مجرد مثل. الأمثال ليست استنتاجات علمية. أنت لا تستشهد بالمثل كي تتوصل إلى المعرفة".
مهما أردنا أن نكون، فإن قياس واقعنا لا بد أن يستند إلى معايير. والذي يعيش على قمة ترتفع الآلاف من الأمتار عن سطح البحر لا بد أن يقيس وضعه وواقعه وحاله بالذي يعيش على الشاطئ. والذي يقيم على الشاطئ يقيس وضعه وواقعه مقارنة ومقاربة مع الآخرين الذين هم ضمن الشاطئ وعلى قمة الجبل.
عندما نقرأ عن الصناديق الصينية السيادية ونقرأ عن احتياطياتها بالعملة الصعبة ـــ ولو أن عملتها على وشك أن تصبح عملة صعبة شأنها شأن الورقة الخضراء ــــ ننبهر ونقف مشدوهين عند الجداول والأرقام.
آخر الإحصائيات تشير إلى أن ادخارات الصين ـــ صناديقها واستثماراتها الخارجية فقط ـــ تبلغ نحو أربعة تريليونات دولار.
هل هذا رقم ضخم وفلكي؟ نعم بالتأكيد. إنه يزيد قليلا على الميزانية السنوية للولايات المتحدة. هل أصابني هذا الرقم بالصداع؟ كلا. لأن صناديق دول الخليج العربية وادخاراتها واستثماراتها هائلة أيضا. لا أرقام موثقة لدي ولكن لا بد أنها كبيرة جدا. وإن أخذنا عدد سكان هذه الدول وقارناه بسكان الصين، لا بد أن تكون استثمارات وادخارات هذه الدول ذات تأثير أكبر بكثير في بنية اقتصادها مما لدى الصين.
بيد أن طريقة تعامل الصين مع ادخاراتها واستثماراتها يختلف جوهريا عن طريقة تعامل هذه الدول مع ادخاراتها واستثماراتها.
لم تدخر ولم تستثمر الصين في أي مكان من العالم ـــ رغم أن أكثر استثماراتها هي في الدول الغربية ـــ إلا لتعزيز صناعتها المحلية ومكانتها الدولية وتأثيرها في البلدان التي تستثمر فيها.
المبدأ الأساسي الذي رافق تقريبا كل الاستثمارات الصينية ولا سيما في البلدان الغربية المتطورة كان مبدأ "المنفعة المتبادلة". كلما زاد استثمار بلد غربي في الصين، زادت الاستثمارات الصينية فيه. ولهذا ترى أن الولايات المتحدة لها حصة الأسد في الاستثمارات الصينية لأن أمريكا واحد من أكبر المستثمرين في الصين.
عندما تكون هناك منافع متبادلة، ستصبح مسألة المساومة والضغط ولا سيما الابتزاز من الصعوبة بمكان. والصين من الذكاء، حيث جعلت الدول الغربية الصناعية أشبه بـ "الرهينة" لاعتماد كثير من صناعاتها وشركاتها الرئيسة على فروعها في الصين.
والأنكى، أن بعض الشركات الفرعية لعمالقة الصناعة الغربية في الصين صارت هي الأم والشركة الأصلية في الغرب هي الفرع.
كثير من البضائع الصناعية هنا في السويد تنتجها شركات سويدية في الصين بأيد عاملة صينية من هواتف ذكية ومعدات كهربائية منزلية إلى حواسيب وقطع غيار وقطارات وألواح الطاقة الشمسية وطواحين الهواء لتوليد الكهرباء.
الصين تستوطن كل ما يأتيها من الغرب. عدا أعداد قليلة من المديرين وبعض المتنفذين وأصحاب الكفاءات النادرة جدا، فإن الأيدي التي تعمل صينية خالصة.
اكتسبت الصين مهارة التصنيع وتمتلك ناصيتها. اليوم دخلت في مجال التصميم الصناعي وفي حلقات غاية في التطور كانت إلى وقت قريب حكرا على الدول الغربية.
والصينيون أذكى المستثمرين في الدنيا. لا يمنحون الأموال ويتركون الآخرين يفعلون بها حسبما يشاؤون. الصين هي التي تستثمر غالبا وعلى طريقتها الخاصة. الغاية هي أن يدرّ الاستثمار في الخارج غلالا للداخل في الصين ذاتها. عندما ازدادت استثماراتهم في السويد، بدأوا بإنشاء أحياء "مدن" خاصة لعمالهم ومهندسيهم لأن واحدا من شروط الاستثمار هي اكتساب المهارة للعمالة الصينية.
وآخر مثال كان الاستثمار الكبير في باكستان الذي دشنه الرئيس الصيني في زيارته الأخيرة لهذا البلد. قدمت الصين 46 مليار دولار لباكستان. ولكن انظر، إنها هي التي ستنفقها وعلى مشاريع أغلبها ستكون محصلتها فائدة كبيرة لها. لن أغوص في مجال صرفها ولكن كل المشاريع ستكون صينية وبعمالة صينية وموجهة أساسا لفتح جديد للصين في آسيا "ولا سيما في جنوبها" التي لم تصلها بصورة مباشرة وحاسمة.
دول الخليج العربية دول سخية جدا مع الكل. لا يمضي أسبوع إلا ونسمع أنها ضخت كذا مليارات في البنك المركزي الفلاني أو الدولة الفلانية. السخاء والكرم شيمة عربية ولكن أين كانت ستكون اليوم إن ربطت دول الخليج العربية استثماراتها بالمنفعة التبادلية كما تفعل الصين؟
وأين كانت ستكون الدول العربية ــــ لن نذكر الأسماء ــــ التي تلقت مليارات ومليارات الدولارات من دول الخليج العربية لو تم ربط هذه المبالغ الهائلة بمشاريع كالتي ستقيمها الصين في باكستان؟ مجرد سؤال.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي