رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


هل انتفت الحاجة إلى الأكاديميين؟

تدور اليوم نقاشات حادة في الأروقة الجامعية حول ما إذا كانت هناك حاجة ماسة إلى الأساتذة الجامعيين.
وهنا لا أقصد أساتذة العلوم الطبيعية والعلوم الصرفة والهندسية والطبية وعلوم التكنولوجيا الحديثة. الحديث يقتصر على أكاديميين من أمثالي الذين يقع اختصاصهم ضمن العلوم الإنسانية والاجتماعية.
لنأخذ الاختصاص الذي أعمل فيه وهو تحليل الخطاب لا سيما الخطاب الذي يتناوله الإعلام بشتى فروعه المرئي والمكتوب والمسموع والأدوات التي يستخدمها للتعبير عن الأحداث والأشخاص والمجتمعات من لغة وصور ثابتة ومتحركة.
في الأروقة الأكاديمية لدي مكانة متواضعة من خلال الكتب التي ألفتها والأبحاث التي نشرتها والمجلة العلمية التي أسستها وما زلت رئيس تحريرها.
بيد أن هذه المكانة قد وضعتني ومعي الكثير من الذين يتفوقون علي علما ونشرا وبحثا في برج عاجي، لا أنا أقبل أن أنزل منه ولا يقبل الذين يمارسون مهنة الإعلام الاستفادة منه.
و"البرج العاجي" الذي خلقناه لأنفسنا نحن - الأكاديميين- قد جعلنا خارج إطار المجتمع الذي ننتمي إليه. صار لنا عالم خاص بنا، له مميزاته وخواصه التي بدلا من أن تقربه إلى الواقع الاجتماعي الذي نحن جزء منه، أبعدتنا عنه كثيرا.
والبعد هذا يتمثل أولا في الخطاب الذي نقول إننا أساتذته. نحن نستخدم لغة وتعابير ومفردات ونظريات قلما يفهمها أو يستوعبها الذين يمارسون مهنة الإعلام. المجلة التي أحررها عالمية المنحى ـــ هذا ما كنت أتصوره ـــ ولكن عالميتها تدور ضمن "البرج العاجي" الذي أشرت إليه.
صار للمجلة نحو أربع سنوات، ورغم أنها تتناول مسائل تطبيقية تخص الإعلام بشتى فروعه، لم يحدث أن تم ذكرها أو التطرق إلى أي من مواضيعها في أي صحيفة أو وسيلة إعلامية.
نحن - الأكاديميين - عادة نكتب لأنفسنا ــــ لبعضنا بعضا. لغتنا ومفرداتنا وجملنا عويصة وصعبة الفهم والاستيعاب رغم أن مادة البحث نستقيها من الواقع الاجتماعي للوسائل الإعلامية التي ندرسها.
هل يقرأ الإعلاميون والصحافيون ما نكتبه؟ لا أظن أن أي إعلامي يريد قراءة بحث من عشرة آلاف كلمة أو أطروحة دكتوراه من 150 ألف كلمة.
ولا أظن أن أي وسيلة إعلامية ستدفع مبلغا كبيرا من المال للاشتراك في المجلة الأكاديمية الإعلامية التي أحررها أو أي مجلة علمية أخرى في الاختصاص ذاته.
في آخر مؤتمر حضرته كان هناك عدد لا بأس به من الإعلاميين الكبار من قنوات إعلامية غربية وشرق أوسطية ذات شأن. لم أسمع أيا منهم يغدق المديح علينا. كان هناك انتقاد للطريقة التي نكتب بها والطريقة التي نقدم بها ما نتوصل إليه من استنتاجات أو نتائج.
الوضع الأكاديمي قد لا يحسد عليه. نحن لسنا باحثين فحسب، علينا أن نقوم بتدريس الطلبة الجامعيين والإشراف على الأطاريح الجامعية وهذه من صلب واجباتنا.
وفي الوقت ذاته نحن تحت ضغط هائل من قبل المسؤولين والإداريين لكتابة أبحاث ونشرها في مجلات علمية رصينة. إن لم ننشر سننتهي. في السويد تدفع الدولة نقدا أكثر من 100 ألف دولار للجامعات عن كل بحث ينشره أساتذتها، في حين أن المبلغ هذا يوازي ضعف ما يتقاضاه الأساتذة هنا في سنة كاملة. وأساتذة الإعلام مثلا قلما يحاولون النزول من "أبراجهم العاجية" والتخاطب مع الناس بلغة الناس للتعبير عما يحملونه من أفكار ومعلومات قد لا تثمن ولكنها تبقى حبيسة الجدران الجامعية والقوالب اللغوية التي من الصعوبة فك طلاسمها.
وهناك مسألتان يتصارع الأستاذ الجامعي للتغلب عليهما كي يتقرب من المجتمع الذي ينتمي إليه من أجل تنويره. الأولى، تخص الوضع الجامعي ذاته حيث لا تعير أغلب الجامعات أية أهمية لنشاطات الأساتذة غير الصفية والبحثية. حتى ولو كتبتُ عمودا في جريدة "نيويورك تايمز"، التي يرى الكثيرون أنها الجريدة رقم واحد في العالم، فإن هذا لن يشفع لي عند التقييم.
والمسألة الثانية تتعلق بالتحزب والانقسام والتشظي والثنائية أو الثلاثية وغيرها التي تضرب المجتمعات تقريبا برمتها في العصر الحديث. أبحاثنا تظهر أنه قلما نجد هناك اليوم وسيلة إعلامية نزيهة محايدة تقف على مسافة واحدة من الكل باختلاف ميولهم وأجناسهم وأديانهم ومذاهبهم. أي وسيلة إعلامية اليوم تسمح للأكاديمي أن يعبِّر عن رأيه بحرية في مقال صحافي دون تدخل ورقابة؟
ولأن أبحاثنا محدودة التداول ـــ نحن نقرأ لبعضنا بعضا ــــ قلما يتدخل أصحاب الشأن فيما نكتبه من بحث. والسبب وجيه. صرنا اليوم ندفع للناشر كي ينشر أبحاثنا وكتبنا لمحدودية تداولها ومحدودية ريعها. هل كان القراء الكرام على دراية بهذا؟
وإن أقحمنا أنفسنا في الإعلام وأظهرنا مواقف متعارضة أتانا سيل من القيل والقال وأحيانا الذم والقدح بأقسى العبارات.
آخر لقاء إذاعي لي في الغرب تناولت فيه لغة إحدى الوسائل الإعلامية الشهيرة، وقلت إن اختيارها للمفردة والعبارة والجملة وتقديمها وتأخيرها للأنماط الخطابية الخاصة بالحدث والأشخاص يجعل منها طرفا في النزاع ومن خطابها وسيلة لبث الكراهية والبغضاء.
لم أتوقع أن يكون للحديث وقع كبير ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان. فجأة أصبحت شخصا غير مرغوب فيه لدى الوسيلة الإعلامية هذه. كتبت هذا وأنا في طريقي لتمضية بعض الوقت في إحدى الجامعات العربية الشرق أوسطية. أنا سعيد بهذا لأنني سألقي محاضراتي بالعربية، ولكن هل سيرحب بي إن حاولت النزول من برجي العاجي؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي