رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


مسؤولية جاهزية البحث العلمي للإسهام في التنمية

لا شك أن المعرفة تقترن بالإنسان في كل زمان ومكان، فالمعرفة هي ما يعرف، وهي ما يبدع وما يَبتكر؛ وأثرها في حياته يأتي من خلال ما يستطيع أن يستخدمه منها لتحيا معه، وإلى جانبه، وفي خدمته، ثم في خدمة أبنائه وأحفاده. وتكتسب المعرفة في هذا العصر أهمية لم تحظَ بها في العصور السابقة. ولعل وراء ذلك سببين رئيسين. أولهما أن لدى الإنسان في هذا العصر معرفة متراكمة موروثة تتجاوز كل ما كان لدى أقرانه من قبل. وثانيهما أن الوعي المعرفي، والتنافس على الإبداع والابتكار في تزايد مستمر؛ وكذلك العمل على الاستثمار في المعرفة الجديدة الناتجة، وتوظيفها في تقديم منتجات وخدمات يقبل عليها الناس، وتؤدي إلى توليد الثروة وتشغيل اليد العاملة، والإسهام في التنمية وتعزيز استدامتها.
البحث العلمي بالطبع هو وسيلة الإبداع والابتكار، وهو عمل واعد للتنمية والتقدم. وتقوم منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونسكو" بتقسيم البحث العلمي إلى ثلاثة أنواع رئيسة. النوع الرئيس الأول هو ما يعرف "بالبحوث الأساسية"، وهي البحوث التي تسعى إلى تقديم معرفة جديدة في الأسس الفكرية والظواهر الطبيعية، وفي ملاحظة الحقائق غير المعروفة من قبل ودراستها والتعرف على خصائصها. وتسهم هذه البحوث في زيادة الرصيد المعرفي للإنسان، وتعطيه ذخيرة معرفية للمستقبل؛ لكنها لا تتمتع بمزايا تطبيقية عاجلة، وقابلة للاستثمار في الوقت الحاضر، ولعل نظرية أينشتاين في النسبية، في حينها، تدخل في هذا الإطار.
النوع الرئيس الثاني من البحوث، هو "البحوث التطبيقية"، وهي أيضا تسعى إلى تقديم معرفة جديدة، ولكن في إطار هدف تطبيقي قابل للتنفيذ والاستثمار على المدى القريب. أما النوع الرئيس الثالث، فهو "بحوث التطوير التجريبي" التي لا تسعى "بالضرورة" إلى تقديم معرفة جديدة، كما هو الحال في النوعين السابقين، بل تعمل على تحويل المعرفة الموجودة أو الناتجة عن بحوث سابقة إلى "قيمة مادية واعدة" يمكن الاستثمار فيها، من خلال تقديم منتجات أو خدمات أو وسائل مفيدة وغير مسبوقة تستند إلى هذه المعرفة.
تهتم الجامعات عادة بالنوعين الأولين: "البحوث الأساسية" و"البحوث التطبيقية" وذلك من منطلق دورها في تقديم معرفة جديدة أو متجددة. وتركز المؤسسات الصناعية على النوع الثالث: "بحوث التطوير التجريبي" من منطلق دورها في تقديم مكاسب مادية.
على أساس ما سبق نجد أن قيمة بحوث الجامعات تتمثل في المعرفة التي تقدمها. ويعتبر النشر العلمي الذي يبرز المعرفة مقياسا مهما من مقاييس تقييم الجامعات. ولا شك أن المعرفة الجديدة المنشورة في مجلات علمية موثقة تتمتع بقيمة إبداعية وحضارية كبيرة؛ لكن هذه القيمة ليست قيمة مادية مباشرة تستطيع الإسهام في التنمية، ما لم تنتقل إلى بحوث التطوير التجريبي التي تقدم مبتكرات جديدة أو متجددة تحمل مثل هذه القيمة. ولعله يمكن القول إن "إبداع" المعرفة الجديدة وحده لا يكفي للإسهام في التنمية، بل لا بد من "الابتكار" أيضا الذي يمكن هذه المعرفة، عبر وسائل مفيدة، من الانتقال إلى "الحياة في السوق"، بدلا من "الحياة ضمن صفحات الكتب والمجلات العلمية".
هناك بالطبع تكامل بين الأنواع الثلاثة، البحوث الأساسية تبني "القاعدة المعرفية"، و"البحوث التطبيقية" تستند إليها لتعطي "معرفة جديدة موجهة نحو التطبيق"، و"بحوث التطوير التجريبي" تنهل منها وتقود معطياتها إلى السوق وإلى الإسهام في التنمية. وعلى هذا الأساس، نجد أن إسهام البحث العلمي في التنمية يحتاج إلى نظرة متكاملة إلى أنواع البحث العلمي الثلاثة، تركز فيها على مجالات مفيدة واعدة، وتبتعد عن النظرات الأحادية غير المتكاملة.
هذه النظرة المتكاملة أقرب إلى التحقيق في الدول الصناعية التي تتمتع ليس فقط بقطاع جامعي نام، بل بقطاع صناعي نامٍ أيضا في مجالات مختلفة؛ ويضاف إلى ذلك وجود قطاع استثماري جريء يتمتع بخبرة استثمارية تنافسية ضمن بيئة تتمتع بدرجة مرتفعة من الثقة المتبادلة. فتكامل هذه القطاعات يفعل تكامل أنواع البحث العلمي، ويجلب لها الاستثمار الذي ينقل معطياتها إلى الحياة الفعلية في السوق، وإلى الإسهام في التنمية ودعم استدامتها.
نتيجة لهذا التكامل، نمت ثمار مفيدة تمثلت فيما يعرف "بأودية التقنية"، حيث تتعاون الجامعات مع المؤسسات الصناعية؛ وحيث عيون الاستثمار وطموحات الربح والتنمية تحيط بها. ولعل أبرز هذه الأودية "وادي السليكون" الشهير في كاليفورنيا؛ و"حديقة العلوم والتقنية وحاضناتها" في هونج كونج، المجاورة "لمعهد البحوث العلمية والتقنية التطبيقية ASTRI" الذي يتعاون مع الجامعات ويهتم بتهيئة بحوثها للإسهام في التنمية. وقد استطاعت الجامعات، من خلال مثل هذه الأودية، الإسهام في إطلاق مؤسسات صناعية جديدة لتقديم منتجات وخدمات مبتكرة تحتاج إليها السوق. وتجدر الإشارة إلى أن جامعاتنا ليست بعيدة عما سبق، فبعضها أقام فعلا "أودية تقنية"، تأخذ طريقها إلى النجاح والإسهام الفاعل في التنمية بمشيئة الله.
مهمة جامعاتنا في إطار ما سبق أكثر صعوبة من مهمات الجامعات في الدول الصناعية. فالخبرة السابقة للتعاون بين الجامعات وقطاعي الصناعة والاستثمار أقل مما يماثلها في تلك الدول. وبالطبع لا بد لمثل هذا التعاون أن يكون مفيدا ومربحا لجميع الأطراف، لأن لكل منهم دورا رئيسا فيه. ولا شك أنه إن تحقق ذلك فإن مكاسب الجميع تصب في مكاسب المجتمع، والإسهام في تنميته.
لا شك أن مسؤولية جاهزية البحث العلمي للإسهام في التنمية ليست مسؤولية طرف واحد. إنها مسؤولية الجامعات، ومسؤولية مراكز البحوث، ومسؤولية القطاع الصناعي، ومسؤولية قطاع الاستثمار، بل ومسؤولية التخطيط المشترك لجميع هؤلاء على مستوى الوطن. لا نريد بحوثا تحمل قيمة معرفية فقط، نريد "بحوثا أساسية وتطبيقية وتطويرية تجريبية متكاملة" في حقول علمية وتقنية نحتاج إليها وتناسبنا كي نجعل البحث العلمي رافدا مهما للتنمية وازدهار المجتمع.
الحقول العلمية والتقنية التي نحتاج إليها وتناسبنا في الوقت الحاضر هي تلك التي نستخدم منتجاتها، ونتمتع بالجاهزية العلمية والتقنية اللازمة لها، وبالثروة البشرية المناسبة للعمل فيها، وبسهولة الحصول على المواد والوسائل التي تحتاج إليها، وببناء القدرة المطلوبة للتنافس مع الآخرين بشأنها، بذلك نحد من الاستيراد، ونشغل اليد العاملة، ونفتح أبواب الخبرة والعمل المعرفي المفيد نحو مستقبل أكثر إشراقا نتطلع إليه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي