ماذا تفعل أفواج الطلبة الصينيين في الجامعات الغربية؟
أكاد أجزم أنه ليس هناك اليوم جامعة رصينة في أمريكا أو أوروبا الغربية لا تحتضن عشرات إن لم يكن مئات الطلبة الصينيين. لماذا يتقاطر هؤلاء الصينيون إلى هذه الجامعات، بينما التعليم في الصين بكافة مراحله يبرز في مهنيته ورقيه ما هو متوافر في الدول الغربية؟
لقد انهيت للتو برنامجا عن التحليل النقدي للنص الإعلامي، وهو مقرر أكاديمي أدرسه كل سنة في الربيع. وفي كل السنين السابقة كان أغلب الطلبة من السويد، ولكن هذا العام كان لدي 20 طالبا صينيا من مجموع 25. وقد بُلغت للتو أنه علّي إعداد مادة لصفين بدلا من صف واحد (25 طالبا لكل صف) في العام المقبل لأن عدد الطلبة الصينيين الراغبين في الانضمام إلى المقرر قد يتجاوز 40 طالبا.
كانت الصين تقنن البعثات إلى الحد الأدنى في الماضي لأن ما تقدمه من تعليم، ولا سيما الجامعي منه، يرقى إلى ما لدى الغرب أو ربما يفوقه.
إذا كان التعليم في الصين بهذا الرقي كما تؤشر إلى ذلك إحصائيات الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات التربوية المستقلة، ما الدافع إذا الذي يجعل الطلبة الصينيين يزحفون بأعداد هائلة صوب الجامعات الغربية؟
وجود الطلبة الصينيين بأعداد كبيرة كان أيضا سببا لتغيير بوصلة التوجه تربويا واقتصاديا وإداريا. فمثلا في كثير من الجامعات صارت الأجور العالية التي يدفعونها في سبيل الدراسة مصدرا مهما للواردات.
وفي البعض الآخر، مثلا جامعتنا، أجرت تغييرات جوهرية غايتها تقديم التعليم للأعداد المتزايدة من الطلبة الأجانب، ولا سيما الصينيين. الخطة التي وضعتها الجامعة للسنين العشر المقبلة تدعو إلى بذل الجهود واستثمار الطاقات، حيث يكون بمقدور الجامعة تقديم كل المقررات باللغة الإنجليزية وبينها الشهادات العليا مثل الماجستير والدكتوراة.
ولكن ماذا يدرس أو ما الشهادات التي يرغب الطلبة الصينيون في الحصول عليها؟ قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن الصينيين يلهثون وراء شهادت جامعية في العلوم والطب والهندسة. كلا، شهادات مثل هذه بإمكانهم الحصول عليها في بلدهم. ما ينقص الصين هو دراسات رصينة ومنهجية في العلوم الاجتماعية والإنسانية.
عندما أرادت الصين اللحاق بالدول الصناعية المتطورة، استثمرت كثيرا في التعليم الجامعي وركزت كل جهودها على العلوم والهندسة. تنمية بلد مثل الصين تحتاج إلى ملايين المهندسين والعمال الأكفاء لإدارة المصانع والخدمات المتطورة التي بدأت تقدمها.
صحيح أن الصين شهدت استثمارات أجنبية هائلة، ولكن المستثمرين الأجانب لم يستندوا إلى العمالة الأجنبية، بل إلى العمالة الصينية المتعلمة والكفؤة التي تدير اليوم مئات الآلاف من المصانع وشركات الخدمات وغيرها.
الصين نجحت في توطين التصنيع والنمو الاقتصادي، أي أن كل الخدمات بكافة أشكالها ومنها الخدمات التكنولوجية المتطورة يقوم بها عمال ومهندسون صينيون، رغم أن أصحابها (المستثمرون) قد يكونون أمريكانا أو ألمانا أو إنجليزا أو سويديين.
التصنيع يمضي بخطوات سريعة مذهلة في الصين ولكن حتى فترة قريبة كانت كل التصاميم الصناعية أجنبية. الصين استطاعت توفير عمال مهرة من خلال مؤسساتها التربوية. والعمالة الصينية مهنيا توازي مثيلاتها الغربية ولكنها أرخص منها بكثير.
وفي السنين الأخيرة، ولا سيما العقدين الماضيين، شعرت الصين بأنها بمثابة غابة كثيفة للمصانع الغربية التي تتحكم في الإنتاج لأنها تملك التصاميم وبراءات الاختراع. وشعر المسؤولون بأن وضعا كهذا لن يمكنهم من الاعتماد على أنفسهم من خلال امتلاك ناصية التصميم وتوطين الاختراع.
قد يتساءل القراء: ما علاقة العلوم الاجتماعية والإنسانيات بالاختراع والتصميم؟ مثلا ما علاقة الدراسات التي تقدمها أقسام الفلسفة والدراسات النقدية ومنها تحليل الخطاب بالتصاميم الصناعية وبراءات الاختراع؟
الفلسفة تنظم الفكر وتفسر الحياة ونهجها ومسارها، وتضع نظريات لما هوعليه الواقع الاجتماعي ولما يجب أن يكون من خلال فرضيات وسيناريوهات محددة. أقسام الفلسفة في السويد لا يدخلها إلا أكثر الطلبة ذكاء وتتلقف الشركات الكبرى الخريجين وتمنحهم رواتب سخية كي يساهموا في تنظيم الحياة في هذه الشركات من أجل الخلق والإبداع.
والدراسات النقدية لها أهمية خاصة، ولا سيما في الغرب. والنقد ليس بالمفهوم الشرق أوسطي الذي غالبا لا يعدو كونه مناكفة وإسقاطا للمختلف مذهبا أو طائفة أو دينا أو فكرا أو غيره. النقد هو الإتيان بما هو إيجابي ومن ثم العروج إلى ما هو سلبي بغية إصلاحه، من خلال تقديم مقترحات وحلول عملية من الواقع الاجتماعي ذاته.
كان الطلبة الصينيون شعلة من النشاط والتركيز عند إلقائي المحاضرات. كنت أتصور أن الطلبة السويديين أذكى ما واجهته في مسيرة حياتي الطويلة، إلا أن الصينيين أظهروا ولعا لا مثيل له بالدراسة والتعلم والاستفادة. السويديون يتغيبون كثيرا عن الدرس وليس من حقنا محاسبتهم، إلا أن الصينيين لم يتغيبوا حتى عن حصة واحدة.