مسؤولية جاهزية الإنسان لمهارات العصر
تحدثنا في مقال سابق عن قضية الجاهزية كمسؤولية اجتماعية؛ وبينا أن عقلية الجاهزية تتميز بتفكير استباقي يعد العدة ويجمع المعطيات والوسائل اللازمة للتمكن من القيام بتنفيذ مختلف الأعمال المطلوبة أو المرغوبة على أفضل وجه ممكن. وهناك مهارات أولية ينبغي أن يكتسبها كل إنسان كي يتمتع بالجاهزية اللازمة لتنفيذ الأعمال الأساسية التي يحتاج إليها في حياته اليومية.
ولعل أبرز هذه المهارات الأولية هي تلك التي وضع لها العالم مؤشرات دولية لتقييم وتصنيف الدول على أساسها، وهي "أهلية القراءة والكتابة" أي الأهلية الناتجة عن "محو الأمية". ولا شك أن التطور العلمي والتقني المتواصل وأثره على حياة الإنسان يزيد باستمرار من متطلبات المهارات الأولية و"أهلية الإنسان" للتعامل مع مستجدات الحياة. فلم تعد القراءة والكتابة كافيتين، بل بات ما هو كافٍ اليوم، غير كافٍ في المستقبل القريب.
عرفت "منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم: اليونسكو"، عام 1958، الأهلية المطلوبة لمحو الأمية على أنها "قدرة الإنسان على قراءة وكتابة نص بسيط حول حياته اليومية". ثم طور هذا التعريف عام 1978، أي بعد عشرين عاما ليصبح "قدرة الإنسان على تنفيذ مهمات القراءة والكتابة وتنفيذ الحسابات البسيطة". وفي عام 2003 عدّل التعريف ليكون "قدرة الإنسان على الفهم والتعبير والتفسير والإبداع والتواصل والتعلم من أجل تحقيق أهدافه والشراكة مع المجتمع". وبعد ذلك بعام، أي في عام 2004، أضيف مبدأ "التعددية واستيعاب الخلافات مع الآخرين" إلى مفهوم الأهلية كبعد اجتماعي يستجيب لمتطلبات الحياة المعاصرة، ويعزز العلاقات بين الناس.
واليوم لم يعد ما سبق كافيا لأهلية الإنسان في الحياة. فقد حددت دراسة شاملة، نشرت أخيرا من قبل المنتدى الاقتصادي الدولي، "16 مهارة" يطلب اكتسابها لتحقيق الجاهزية التي يحتاج إليها الإنسان للتعامل مع متطلبات العصر. ومع انتشار التعليم على نطاق واسع في مختلف أنحاء العالم، حملت الدراسة التعليم في مختلف أنحاء العالم مسؤولية تأهيل الأجيال بهذه المهارات. وتنقسم هذه المهارات إلى ثلاث مجموعات. المجموعة الأولى "للمهارات الأساسية"؛ والثانية "للمهارات التنافسية"؛ والثالثة "لمهارات الإنسان الشخصية". ولعلنا نلقي الضوء فيما يلي على مهارات هذه المجموعات قبل وضع تعليقات حول الأمر:
تشمل المجموعة الأولى ست مهارات أساسية. وتضم هذه المهارات: أهلية القراءة والكتابة؛ وأهلية التعامل مع الأرقام؛ وأهلية المعرفة العلمية العامة خصوصا في القضايا العلمية المؤثرة كقضايا الصحة والبيئة وغيرها؛ ثم أهلية التعامل مع تقنيات المعلومات والاتصالات؛ وأهلية فهم القضايا المالية؛ وأهلية قضايا الثقافة والمعرفة الإنسانية. ولعله يمكن وصف هذه المهارات بأنها "مهارات معرفية" يمكن أن يتلقاها الإنسان عبر "التعليم"، ثم يتابعها بعد ذلك عبر "التعلم".
ونأتي إلى المجموعة الثانية التي تضم أربع مهارات. تهتم الأولى بالتفكير النقدي والقدرة على حل المشاكل، وقد طرحنا في مقال سابق هذا الأمر في مقال حول "التفكير كمسؤولية اجتماعية". وتركز الثانية على الإبداع والابتكار وتفعيل المعرفة وتعزيز الاستفادة منها. وتهتم الثالثة بالتواصل وتبادل المعلومات. وتشجع الثالثة على التعاون والعمل المشترك لخير المجتمع. وتتميز هذه المهارات بأنها مهارات مكملة معرفيا لمهارات المجموعة الأولى، فهي لا تتضمن معرفة ينبغي اكتسابها من مصادر خارجية كما هو الحال في المجموعة الأولى، بل تشمل "ممارسة معرفية" تفعل التنافس والتعاون على توليد المعرفة وتوظيفها والسعي إلى الاستفادة منها.
وننتقل إلى المجموعة الثالثة التي تشمل ست مهارات. أول هذه المهارات الرغبة في التعلم وسعة الأفق في النظر إلى أمور العمل والحياة. وثاني هذه المهارات هي المبادرة والاستباقية، وهي بذلك ترتبط بمسألة الجاهزية للتقدم إلى الأمام. أما المهارة الثالثة فهي العزيمة والإصرار والقدرة على الاستمرار في العمل على تحقيق الأهداف التي يسعى الإنسان إليها. وتعنى المهارة الرابعة بالقدرة على التكيّف وتغيير الخطط والمواقف عند بروز معلومات أو مستجدات تقتضي ذلك. وتهتم الخامسة بالقيادة والتوجيه وإعطاء القدوة الحسنة للآخرين في العمل والإنجاز. وتركز المهارة السادسة على الوعي الاجتماعي والثقافي والقدرة على التفاعل مع الناس اجتماعيا وثقافيا وبسلوك قويم.
تتكامل المجموعات الثلاث في بناء مهارات الإنسان التي يحتاج إليها في هذا العصر. تكسبه الأولى "المعارف الأساسية"؛ وتؤهله الثانية "للممارسة المعرفية"؛ وتعتني الثالثة "بشخصيته وسلوكه". ولا شك أن في ذلك معطيات إيجابية، ليس فقط للإنسان الذي يتمتع بهذه المهارات، بل للمجتمع الذي يعيش فيه، وللعالم بأسره، خصوصا أن العالم، بالتقنية الحديثة، بات فعلا كما يقال دائما "قرية صغيرة".
هذه الصورة الجميلة للمهارات الناجحة تحتاج إلى بعد تربوي يهتم بالروح الإنسانية وحس الخير والعدل والمساواة لدى كل إنسان تجاه الآخرين. ونحن لنا في ثقافتنا الإسلامية ما يحث على المهارات الناجحة في تعبير "أولي الألباب"، وما يدعو إلى الخير والعدل والمساواة في تعبير "تقوى الله". يقول تعالى في سورة البقرة "ومن يُؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذّكر إلا أولو الألباب"؛ ويقول أيضا في سورة الحجرات "إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم".
لا شك أن مسؤولية بناء الإنسان الذي يجيد "مهارات العصر" ويتمتع "بالروح الإنسانية" ليست فقط مسؤولية التعليم وحده، بل هي مسؤولية المجتمع بكامل أفراده ومؤسساته. فلبيئة الحياة تأثير كبير على استخدام المهارات وعلى المثل الإنسانية. لكن التعليم يبقى المسؤول الرئيس وإن لم يكن المسؤول الوحيد عن هذه المهارات والمثل. فالناشئة يعيشون بين يدي التعليم "12 عاما في التعليم العام" ثم "سنوات أخرى في التعليم العالي"، وربما المزيد في "التدريب". وعلى ذلك يستطيع التعليم عبر هذه السنوات أن يؤسس لبناء الإنسان الذي يملك زمام مهارات العصر ويتحلى بالمثل الإنسانية. لكنه وهو يعمل على تجهيز الإنسان لذلك، لا بد أن يتمتع بالجاهزية اللازمة لهذا العمل، وهذه قضية تستحق النقاش والتخطيط والتطوير في المستقبل.
علينا دائما أن ننظر إلى المستقبل، فهو حصيلة ما نقوم به اليوم. المستقبل يريد منا إنسانا يتمتع بالجاهزية اللازمة لحياة ناجحة، إنسانا واعيا، صاحب مثل، مؤهلا بمهارات العصر، متقنا لعمل تخصصي مفيد، ويتمتع بمسؤولية حية تجاه ذاته وتجاه من حوله ومجتمعه والعالم بأسره.