الرسوم على الأراضي البيضاء تحفز النشاط الاقتصادي وتحقق سياسات الإسكان الميسر
صدر عن مجلس الوزراء برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، في جلسته المنعقدة في 3/6/1436 الموافق 23/3/2015 ما يلي:
"بعد الاطلاع على توصية مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية بفرض رسوم على الأراضي البيضاء داخل النطاق العمراني للمدن والمحافظات والمراكز، وافق مجلس الوزراء على قيام مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية بإعداد الآليات والترتيبات التنظيمية لذلك، ورفع ما يتم التوصل إليه إلى مجلس الوزراء تمهيدا لإحالته إلى مجلس الشورى لاستكمال الإجراءات النظامية في هذا الشأن بشكل عاجل". موافقة مجلس الوزراء تعني ضمنا الموافقة على مبدأ فرض الرسوم، وأن الخطوات التالية المنتظرة متعلقة بتفاصيل هذا الفرض.
المعنى
ربما كان السؤال الأول في معنى كلمة "رسوم". الرسوم في التعريف القانوني وفي اقتصاد المالية العامة تعني عادة فرض مبلغ محدد من المال مقابل استفادة المستفيد من خدمة محددة تقدمها الدولة، أي أن الهدف أن يدفع المستفيد عادة بعض تكلفة هذه الخدمة على الدولة. بمعنى آخر، المستفيد يشتري خدمة ولو بسعر مدعوم. وإذا كانت الخدمة لمرة واحدة فالرسوم طبعا لا تتكرر. أما إذا كان الهدف جمع المال بحد ذاته، من غير ربط مباشر بخدمة محددة تقدم للدافع، فهي ضريبة في التعريف القانوني والمالي العام. وأخذ الضرائب يتكرر كل فترة دورية كشهر أو سنة.
أرجح أن الرسوم الواردة في قرار مجلس الوزراء هي ضريبة حسب الشرح السابق. وسأستند في مقالي هذا على هذا المعنى. وهذه النقطة مهمة جدا، لأن تأثير الضريبة غير تأثير الرسم غير المتكرر خاصة. واستنادي يتفق مع التعبير الدارج في كتابات المالية العامة القانونية أو الاقتصادية وهو ضريبة قيمة الأرض Land value tax.
فرصة لإدخال ثقافة ضريبية
فرض ضريبة قيمة الأرض تعد فرصة سانحة لإدخال ثقافة ضريبية في المجتمع، ضمن مساعي تنويع مصادر الدخل، ومنه دخل الدولة، تقليلا من الاعتماد شبه المطلق على دخل البترول. وطبعا هذا الإدخال له ثمنه وله تبعاته من وعلى كلا الطرفين الدافع والمستلم. إلا أن مناقشة هذه الفرصة وفوائدها ومالها وما عليها خارج نطاق المقال.
حق للمجتمع في فرض ضريبة قيمة الأرض
أساس الاهتمام بهذه الضريبة أن المجتمع يصنع، بأنشطته المتنوعة، قيمة الأرض. وأعني بالمجتمع الوطن بجميع مكوناته وفئاته. عندما يقرر المجتمع تطوير أو تحسين ناحية جغرافية من مدينة أو محافظة عبر شق طريق أو بناء مشروع أو تطوير مرفقي ونحو ذلك، فإن النتيجة رفع قيمة الأراضي المحيطة. هذه القيمة المضافة صنعها المجتمع بماله وجهده وليس مالك الأرض. المالك ليس له فضل في هذا. وبتعبير آخر، ترتفع أسعار الأراضي لتغيرات وتطورات في الاقتصاد، أسهم فيها المجتمع وليس ملاك تلك الأراضي. وهذا الارتفاع في العادة يتجاوز كثيرا التكلفة المتوقعة للفرصة الفائتة بسبب الامتناع عن البيع (الاحتكار أي الحبس). أما الامتناع ذاته فلا تكلفة له، إذ الأرض ليست سلعة تحتاج إلى تخزين وحفظ وتستهلك مع مرور الوقت. وهذا فرق جوهري بين سلعة الأرض والسلع الأخرى، وهذا الفرق أحد مبررات فرض الضريبة. توقع الارتفاع المستقبلي يحفز على مزيد من الاحتكار الذي نعني به الحبس، وليس الانفراد. وحيث إن الحبس أو الاحتكار لا تكلفة له خلاف الفرصة الفائتة، فهذا يزيد المشكلة. وللتوضيح، طمع البشر والاحتكار ليس جديدا، بل هو من شيم النفوس، فالإنسان يحب المال حبا جما منذ أن خلق. ما الذي استجد ويستجد؟ التطورات الاقتصادية. يقف على رأس هذه التطورات في الاقتصاد السعودي ارتفاع الدخل النفطي فنمو الإنفاق الحكومي، فنمو السيولة في شرايين الاقتصاد. تلك التطورات صنعت بيئة خصبة لممارسات، كالمضاربات والاحتكار، تزيد من فرصة ارتفاع أسعار الأراضي، خاصة أنه لا تكلفة فعلية لهذه الممارسات ذاتها خلاف تكلفة الفرصة.
ما سبق يبين أن هناك منطقا وعقلانية لحصول المجتمع على عائد مقابل مساهمته في إضافة قيمة للأرض. بهذا المعنى فإن ضريبة قيمة الأرض لا تحمل كل المعنى الموجود في الضرائب الأخرى. بل تعد مساهمة من المالك للمجتمع مقابل المنافع التي تسلمها أو نالها من الخدمات وتطوير البنية والمرافق الممولة من الآخرين، خاصة خزانة الدولة، التي أسهمت في رفع قيمة الأرض. وحتى الأراضي التي لم يصلها التطوير، توقع أو أمل التطوير مستقبلا له اعتباره وتأثيره الآن.
من خصائص ضريبة قيمة الأرض أنها تحفز على استخدام تشغيل الأراضي المعطلة. تمنع أو تقلل توسع المناطق السكنية دون داع، بسبب حبس مساحات عمدا. من فوائدها أنها تحفز على النشاط الاقتصادي، وتقلل المضاربات وتقليل المضاربات يحد من رفع الأسعار.
ضريبة قيمة الأرض تخفض أسعارها
من منافعها المأخوذة من خصائصها أن البائع أعني المالك لا يمكنه تعديتها إلى المشتري، وهذا يعمل بالضرورة على خفض قيمة الأرض. القول إن فرض رسوم على شاكلة ضرائب يرفع أسعار الأراضي على المشترين غير صحيح من وجهة اقتصادية حيادية علمية، بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى للموضوع، وبغض النظر عن كيفية التطبيق وتفاصيله ومشكلاته. وللفائدة، التسمية رسوم غير دقيقة، ولكنها التسمية الشائعة.
ومن جهة أخرى، فإن فرض ضريبة على الأراضي يشجع على زيادة المعروض منها.
علينا أن نفرق بين سلعة تنشأ من عملية استحداث وسلعة لا تنشأ من عملية استحداث. الأولى تقبل الاستبدال، والثانية لا تقبل. فرض الضرائب والرسوم ونحو ذلك يرفع تكلفة السلع القابلة للاستبدال، ولا يرفع غير القابلة. الأراضي لا تقبل الاستبدال.
هنا توضيح لتأثير ضرائب الأرض والأملاك العقارية عموما بصورة مبسطة. الزكاة على الأراضي تقنيا وفي إطار التحليل الاقتصادي المحض، هي من قبيل الضريبة على الملكية.
علام نبدأ بتحديد سعر أي سلعة نتجت من عملية إنتاج أي استحداث؟ نبدأ بتكلفة الاستحداث نفسه (أو بالمعنى نفسه الاستبدال، أي استبدال السلعة).
تدخل الضريبة ضمن تكلفة الاستحداث، أي ضمن تكلفة الإنتاج. وفرض الضريبة يرفع تكلفة الاستحداث أو الاستبدال. مثلا، نعرف أن الحكومة فرضت رسوما على شركات الهاتف الجوال (خدمة الجوال طبعا تقبل الاستحداث والاستبدال). شركات الجوال تدخل قطعا هذه الرسوم ضمن تكاليفها، وتعكسها كليا أو جزئيا وبصورة ما في تسعير خدماتها، اعتمادا على قوتها التنافسية وغير ذلك من اعتبارات.
هل ينطبق الكلام السابق على الأراضي؟ لا. الأرض محددة المساحة. مهما كانت مساحة الدولة، فالأرض ذات مساحة محددة، وليست قابلة للاستحداث.
أي أن الأراضي التي يمكن عرضها للبيع (بغض النظر عن حدوث ذلك من عدمه) غير قابلة للزيادة أو النقص، أي أنها محددة ابتداء. وهذا فرق جوهري بين الأرض والسلع الأخرى التي يشتريها الناس (قابلة للاستحداث أو قابلة للاستبدال). وهذا يعني بالضرورة، أن سعر الأرض في السوق يعتمد على المبلغ الذي يرغب المشتري في دفعه.
سيتحمل مالك الأرض عبء الضريبة، ولا يمكن نقل هذا العبء إلى الآخرين. يفهم من ذلك أن المالك أو البائع لا يستطيع أن يمرر الضريبة إلى الآخرين عند فرض ضريبة على الأرض فقط. وهذا يعني، بالضرورة، خفض سعر الأرض. ومن جهة أخرى، يحفز ذلك على عمل شرائح تصاعدية للضريبة، مع ارتفاع مساحة الأرض مثلا. لنفهم الموضوع من زاوية أخرى. لنفترض أرضين متجاورتين متساويتين في كل الصفات وفي القيمة. بنيت إحداهما ولنطلق عليها عقار "أ" ولم تبن الأخرى ولنطلق عليها عقار "ب".
ماذا ستكون النتيجة؟ ستنخفض قيمة الأرض "ب"، مقارنة بقيمة (في الذهن) لأرض العقار "أ".
ما مقدار الانخفاض؟
يعادل تقريبا القيمة الحالية لضريبة الأرض المستقبلية. وهذا يعني أن الأمر مرتبط بمعدل وطريقة فرض الضريبة.
وفي الدراسة التالية، الصادرة عن جامعة فكتوريا الأسترالية عملت في عام 2009، قدر الانخفاض بنحو 16 في المائة، بافتراض أن الحكومة فرضت ضريبة سنوية تعادل 1 في المائة من قيمة أي أرض غير مبنية.
Land tax, Background paper for Session 3 of the Victoria University of Wellington Tax Working Group.
وهناك بحث آخر بالإنجليزية لمن يرغب التوسع في فهم الموضوع
Fiscal, Distributional and Efficiency Impacts of Land and Property Taxes, paper presented to Tax Session, New Zealand Association of Economists conference, July 2009 Andrew Coleman and Arthur Grimes.
http://www.2025taskforce.govt.nz/pdfs/tfr-lpt-1nov09.pdf
لنفهم مقدار الانخفاض من زاوية مختلفة. يمكن تقدير قيمة ملكية ما (أرض فقط أو مبنى بما يعني أرض وبناء) من المعادلة التالية، أضعها في أبسط صورة ممكنة:
مجموع كل من معدل الفائدة أو الربحية ومعدل الضريبة (أو الزكاة) على الملكية، مضروبا في القيمة الرأسمالية للملكية = القيمة الإيجارية السنوية للملكية. هذا هو الأساس.
بين الزكاة وضريبة قيمة الأرض
الأعيان المعدة للتجارة، ومنها الأراضي، تجب فيها الزكاة، وهذا معروف. بعض الفقهاء يرون أن الأرض المحتكرة المعدة للاستثمار على المدى البعيد (احتكارها بمعنى حبسها عن المتاجرة فيها في الوقت الحالي)، تجب فيها الزكاة لسنة واحدة. وهذا هو الرأي السائد في مجتمعنا، على الأقل بالنسبة للأفراد.
هناك رأي آخر، هناك فقهاء آخرون يوجبون الزكاة فيها كل عام. وسواء اعتبرنا الزكاة ضريبة بالمعنى الاصطلاحي أو لا، فإنها مشابهة لضريبة الملكية من بعض النواحي. باختصار، معنى الاحتكار في اللغة وفي الفقه يعني الحبس، وليس الانفراد. ولا شك أن ملكية الأراضي تتوزع بين عدد كبير من الناس، ونسبة كبيرة من تلك الأراضي في المدن وحولها محبوسة عن العرض لأكثر من سبب. ومن غير المتصور أن هذا الحبس نتيجة تواطؤ بين الملاك.
وهناك سبب آخر للاهتمام بجباية الزكاة سنويا على الأراضي المعدة للاستثمار. وهو سبب وجيه جدا.
تعد كثير من الأراضي خاصة والعقارات عامة للتجارة واقتناص فرص الربح بيعا وشراء على المدى القصير بما يشبه المضاربة في الأسهم، أو اقتناص الربح على المدى البعيد، بما يشبه الاستثمار في أي مجال آخر.
ويبدو لي أن أغلبية ملاك الأراضي، خاصة الكبار، من هذا النوع، يتركونها بغرض توقع ارتفاع الأسعار ارتفاعا كبيرا بعد سنوات قلت أو كثرت، وبعضهم ليس لديه حافز على البيع أو التطوير في حياته، لأنه لا يرى حاجة إلى حصوله على مزيد سيولة.
باختصار، أرى أن بالإمكان وضع نظام يجمع بين الزكاة والضريبة.
فوائد أخرى لضريبة قيمة الأرض
في اقتصاد المالية العامة ينظر إلى الضريبة على أنها أداة قوية من أدوات السياسة المالية لإحداث تأثيرات اقتصادية، وفي هذا الإطار ينظر للضريبة على أنها تسهم في سياسات الإسكان الميسر بغرض الشراء أو التأجير، سواء للأراضي المبنية أو المطورة أو التي لم تطور بعد. يمكن استعمال الأموال المتحصلة من الضريبة في تغطية تكلفة توصيل الخدمات للأراضي وفي توفير مساكن ميسرة، وفي دعم أموال صندوق التنمية العقارية.
ضريبة قيمة الأرض ليست الأداة الوحيدة لكبح جماح ارتفاع أسعار الأراضي
من المهم أن أشير إلى أن الحديث عن تأثير عامل من العوامل لا يعني بأي حال من الأحوال إلغاء وجود تأثير لعوامل أخرى، أو وجود تأثيرات متداخلة. وتطبيقا، فإن ضريبة قيمة الأرض ليست الأداة الوحيدة لكبح جماح ارتفاع أسعار الأراضي.
البناء والتطبيق أمامه صعوبات ولكنه مطلب
لا شك في ظهور مشكلات في وضع البناء وفي تطبيقه. هناك حاجة إلى عدد كبير من المختصين والمستشارين المتمكنين شرعا وقانونا واقتصادا وتنظيما وخبرة عقارية وخبرة ضريبية للعمل معا في إعداد أنظمة ولوائح ضريبة قيمة الأرض وإجراءات تطبيقها بأحسن ما يمكن.
إن مشكلات أو سوء التطبيق لا يلغي أصل الموضوع. الذي يلغيه استحالة التطبيق أو كونه يكلف أكثر من العائد من التطبيق. وكلاهما مستبعد. التطبيق متعب، ولكن كما يقول المثل لا بد من صنعاء وإن طال السفر. أدخلت إلى البلاد مخترعات وأساليب عمل وقوانين مفيدة للعباد والبلاد، ما كان لها أن تدخل بسهولة. بل بعضها تسبب في سقوط ضحايا ونزاعات. التطبيق أمامه عقبات نعم، لكنه ممكن وفوائده تجعله مطلبا ملحا. والموضوع يحتاج إلى تفاصيل كثيرة.
حديث عن الموضوع
أخيرا أشير إلى أن الكاتب تشرف بالحديث عن موضوع ضريبة الأرض وتأثيراتها الاقتصادية على جمع من الفضلاء، بدعوة من الشيخ عبد الله المطلق المستشار في الديوان الملكي وعضو هيئة كبار العلماء، بتاريخ 23/11/1435 الموافق 18 أيلول (سبتمبر) 2014. وبالله التوفيق.