رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الحكاؤون وأثرهم السلبي في التنمية

ما أن تجلس في مجلس من المجالس إلا والحديث فيه غالبا يدور حول قضايا اجتماعية يكون السلوك الفردي الأكثر جذبا للانتباه وهو الذي يحظى بالنقد، والانزعاج من الحضور، حتى أن الناس من تذمرهم من هذه السلوكيات وعيبهم عليها ينتقدون الجهات الرسمية، وتقصيرها في الوقوف في وجه هذه التصرفات لمنع حدوثها، أو التخفيف منها، والناس محقون في نقد الجهات الرسمية في عدم القيام بواجباتها، أو لنقل التراخي في ذلك، إذا أردنا أن نخفف العبارة.
السلوكيات التي تكون محل النقاش غالبا هي تلك التي تؤذي الآخرين مثل الإسراف في المياه، وما يترتب على ذلك من إيذاء للجيران، والمارة، كما أن نظافة الأماكن العامة، كالحدائق، والمتنزهات البرية، إضافة إلى السلوكيات المرورية، كالسرعة، وعدم احترام المارة، واستخدام المنبه بشكل مزعج، وفي ظروف لا تستدعي ذلك، إضافة إلى تغيير المسار بشكل مفاجئ، وبلا مقدمات مما يعرض الآخرين للخطر، ويربك حركة المرور، أما الوقوف في غير الأماكن المخصصة للسيارات، بل والوقوف خلف سيارات الآخرين عند المساجد وفي الأسواق فحدث، ولا حرج، وكأن الآخرين مرهونون لهؤلاء.
هذه المواضيع وغيرها كثيرا ما تكون محل نقاش، والغريب أن المتحاورين فيها تجدهم متفقين على شيء واحد هو نقد هذه التصرفات، والعيب على أصحابها، ووصفهم بالمستهترين، وقليلي الذوق، وعدم الشعور بالمسؤولية، وما من شك أن هذه الأوصاف صحيحة، ومحقة في حق هؤلاء، لكن الغريب أن من ينقدون الآخرين في أعمالهم هذه هم يمارسون الممارسات نفسها وبصورة بشعة لكنهم أمام الآخرين يحاولون إظهار التزامهم بالنظام، والأمانة، والحرص على الممتلكات العامة.
مع الأسف، هذا الوضع يصل إلى حد اعتباره ظاهرة في مجتمعنا، إذ إن هذه السلوكيات لا أب، ولا أم لها، ولا تجد من يتبناها، بل الجميع يرفضها قولا لكنه يمارسها.
تأملت في هذا التباين بين السلوك الحقيقي، والسلوك اللفظي، والادعاء محاولا تفسيره من الناحية النفسية، والاجتماعية، ولعل أقرب تفسير لهذا يتمثل في الأنانية المفرطة التي تطغى على الفرد بحيث يرى أن الطريق طريقه، ولا أحد يشاركه فيه، ويمكنه أن يقود سيارته بالشكل الذي يراه مناسبا، ويرضيه، حتى لو أزعج الآخرين، أو أضر بهم، لكن هل الأنانية تنسحب على ما يتركه الناس من مخلفات في الحدائق العامة، والمتنزهات، وكيف يكون هذا التفسير مستقيما لو افترضنا أن هذه الحديقة في منزل من يمارس هذه السلوكيات فهل سيترك المخلفات فيها؟! الجهل، وقلة الوعي ربما يشكلان أساسا لتفسير الكثير من التصرفات، فعدم إدراك ما يترتب على السرعة، والتهور في القيادة من مخاطر على الذات، وعلى الآخرين هي من الأسباب لما نلاحظه من ممارسات طائشة، ولا مسؤولة، كما أن التحرر من شعور إيقاع العقوبة بتطبيق النظام تشجع على تصرفات هكذا.
التربية المنزلية، وكذلك ما يتلقاه الفرد من قيم، أو ما يشاهده من تناقضات بين ما يقوله، أو يدعيه الوالدان، والأقارب، وبين ما يفعل يجسد في الفرد ذاته ازدواجية الشخصية التي تجعله يستحلي الحديث بالمثاليات، وإظهار نفسه بالفرد المحافظ على النظام، والنظافة، والأمانة لأنه يعلم أن هذه أمور محببة للناس، ومقبولة اجتماعيا، وهو بهذا الادعاء يحصل على رضا الناس، ويكبر في أعينهم، وهم يسمعون منه هذه المثاليات.
في أدبيات علم النفس يوصف الشخص الذي يكثر الحديث، ولا يلتزم بما يقول، ويدعي بأنه حكائي talkative person، ولعل الوسط الاجتماعي الذي يوجد فيه الفرد يشكّل مناخا مناسبا لظهور مثل هذه البذور، وتكاثرها، إذ يجعل الفرد من سلوك الآخرين المتناقض مثالا يحتذيه، ويبرر به سلوكه، وكأن لسان حاله يقول كل الناس يفعلون هذه التصرفات فلماذا أشذ، وأختلف عنهم، ولذا نجد أن جموع الحكائيين تتسع دائرتهم حتى ليخيل للمرء أن غالبية المجتمع على هذه الشاكلة.
الحكاؤون يوجهون طاقتهم النفسية، والذهنية للحديث، وكثرة الحديث دون أن يكلفوا أنفسهم في العمل، والالتزام بما يتشدقون به من مبادئ ومثاليات ليس لها أساس في سلوكياتهم الفعلية، ولذا فإن المجتمعات إذا ابتليت بأعداد من هؤلاء فلا غرابة في تراجع المجتمع، وتخلفه في المجالات كافة، فالقول ليس كالفعل، وما أقل من يفعل مقارنا بمن يحكي.
الإنتاجية في كمها وكيفها مرتبطة بالعمل الجاد والحرص على النظام، وإدراك حقوق الآخرين لكن الإنتاجية الاجتماعية في المجالات كافة يسهم فيها الفرد بمقدار إنتاجيته، ومتى ما قلت إنتاجية الفرد تراجعت إنتاجية المجتمع. يحدث هذا الوضع حين يكثر الحكاؤون ويقل العاملون، ولذا لا تنمية حقيقية بوجود الحكائين وكثرتهم في المجتمع خاصة إذا كانوا يمسكون بمراكز التأثير والمناصب القيادية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي