ثقافة الجاهزية مسؤولية اجتماعية
عندما نقدم على تنفيذ عمل ما، فإن أول معيار من معايير نجاح هذا العمل هو وجود الجاهزية اللازمة لتنفيذه. فانتقال الإنسان بالسيارة من موقع إلى آخر يحتاج إلى جاهزية ذات أطراف عدة تشمل: جاهزية الإنسان للانتقال، وجاهزية أجهزة السيارة وسيلة النقل، وجاهزية الوقود فيها، وجاهزية الطرق التي ستعبرها، إضافة إلى جاهزية نظام المرور في تنظيم الشراكة في الطرق بين السيارات العابرة. وعلى ذلك فإن تحقيق الجاهزية اللازمة لتنفيذ عمل مطلوب أو مرغوب يتطلب إعداد كل ما يلزم لتنفيذ هذا العمل بالنجاح المأمول. ولا بد في هذا الأمر من رؤية شاملة للجاهزية ترى مختلف الجوانب المحيطة بها.
هناك في حياتنا نوعان من الجاهزية اللازمة للقيام بعمل ما. هناك الجاهزية الواضحة والحاسمة بل والشرطية، وأمثلة هذه الجاهزية كثيرة، فلا يستطيع الشاب أن يحصل على قبول في الجامعة دون أن يكون جاهزا بالثانوية العامة، ولا يستطيع أي إنسان أن يتسوق دون أن يكون جاهزا بالمال اللازم لذلك.
ثم هناك الجاهزية غير الواضحة وغير الحاسمة التي ربما تختلف فيها الانطباعات والآراء، والتي تحتاج إلى دراسات موضوعية للتعرف على متطلباتها وحسم الخلافات بشأنها. ومن أمثلة ذلك دراسة الجاهزية الاستثمارية لبناء مصنع، وتقديم منتج يتمتع بجاهزية الانتشار في السوق المستهدف، من أجل جني الأرباح. ومن ذلك أيضا المثال سابق الذكر حول جاهزية الانتقال بالسيارة التي تشمل جاهزية أطراف عدة.
وفي إطار نوعي الجاهزية السابقين، يبرز عامل الزمن والرؤية المستقبلية. فإذا كان أمامنا أهداف نتطلع إلى الوصول إليها، ولسنا بعد جاهزين لها، فإن دراسة كيفية الوصول إلى الجاهزية المطلوبة وتجميع أسبابها، تعطينا الوسائل اللازمة للإعداد لها والإسهام في تمكين العمل على تحقيق أهدافنا المنشودة. وينطبق هذا الأمر على جميع المستويات ابتداء من مستوى الإنسان الفرد، إلى مستوى المؤسسات المختلفة، وحتى مستوى الوطن بل ومستوى العالم بأسره.
وتحتاج دراسات الجاهزية في الموضوعات المختلفة ليس فقط إلى متخصصين في هذه الموضوعات، أو خبراء في التخطيط للمستقبل، بل إلى بيانات وحقائق أيضا ننطلق منها نحو العمل المطلوب. ولعل في ثقافة القياس، وتوافر البيانات، التي تحدثنا عنها في مقال سابق ما يسهل مثل هذه الدراسات ويوثق نتائجها.
وتبرز أهمية دراسات الجاهزية في مشروعات التطوير كتطوير التعليم، وتطوير بنية الخدمات الأساسية، وغير ذلك من مشروعات حيوية؛ كما تبرز أيضا في قضايا التنمية كتفعيل الاستثمار، وتعزيز العمل والإنتاج، وتوليد الثروة، وتشغيل اليد العاملة، وغير ذلك. وتجدر الإشارة هنا إلى أن في تطوير التعليم وتطوير البنية الأساسية تمكين للتنمية. وعلى هذا الأساس فإن العلاقة بين مثل هذا التطوير والتنمية هي علاقة جاهزية يجب الاهتمام بها عبر الربط بين الاثنين. فالتطوير المقصود جاهزية للعطاء والتنمية، فالتنمية بالطبع طريق للتقدم نحو حياة أفضل ومكانة أسمى بين الأمم.
ولدراسات الجاهزية في مشروع عمل من الأعمال جوانب عامة تستحق أن نقف عندها. بين هذه الجوانب: الجاهزية البشرية بمعنى جاهزية الكوادر والخبرات اللازمة؛ والجاهزية الاستثمارية أي رأس المال اللازم؛ والجاهزية التقنية بمعنى التمكن من الحصول على التقنية اللازمة أو ربما تطويرها؛ وجاهزية المواد الخام التي قد يحتاج إليها المشروع؛ والجاهزية الإدارية أي جاهزية القدرة على إدارة العمل بكفاءة؛ وجاهزية القدرة على المنافسة مع الأعمال المماثلة؛ إضافة إلى كل من جاهزية التسويق، وجاهزية السوق الخاص بمخرجات العمل إن كان ذلك جزءا من أجزاء المشروع المطروح.
وكثيرا ما نجد مشاريع ينصب اهتمامها على كل من جاهزية الاستثمار وجاهزية السوق، حيث تترك باقي جوانب الجاهزية للشركات الخارجية. وقد يكون في ذلك بعض الفوائد، لكن الفائدة الحقيقية تكمن في التوجه نحو العمل على بناء جاهزية ذاتية. وإذا كان هناك قصور في الجاهزية الذاتية، في بعض الجوانب، وكان لا بد من الاستعانة بالشركات الخارجية، فمن المسؤولية الاجتماعية أن يكون العمل مشتركا مع الشركات الخارجية للتعلم واكتساب الخبرة، لا أن تترك مثل هذه الشركات تعمل بمفردها تعزز خبراتها وحدها بعيدا عنا، ونحن على الطرف الآخر ننتظر تسلّم المفتاح.
وإذا نظرنا إلى مشاريع التنمية المستقبلية، فعلينا أن نضع لها أولويات زمنية آخذين في الاعتبار قضايا الجاهزية التي تناسبنا. وفي نظرة إلى مبادئ مثل ذلك نقول نريد أولا جاهزية استثمارية لمشاريع تقدم لنا ما نحتاج إليه محليا بحيث تحد من الاستيراد من الخارج، وجاهزية بشرية للعمل فيها توسع دائرة التوظيف، إضافة إلى الجوانب الأخرى من الجاهزية التي نحتاج إليها. ونريد ثانيا جاهزية لمشاريع تعطي قدرة على تصدير مخرجاتها، والاستفادة من عوائدها في تعزيز التنمية وتفعيل المزيد منها. وبالطبع يفضل في مثل هذه المشاريع استغلال المواد الخام المتاحة لنا.
وقد يكون هناك على مدى زمني أبعد موضوعات واعدة لسنا جاهزين لها بعد لكنها تستحق الاهتمام كمسار مستقبلي. قد لا تتمتع مثل هذه الموضوعات بأولوية عملية آنية، لكن التجهيز لها والاستعداد لمتطلباتها يمكن أن يمهد الطريق إلى فوائدها المرجوة في المستقبل. تجدر الإشارة هنا إلى أن البحوث العلمية التي تجري في جامعاتنا وفي مراكزنا البحثية يجب ألا تهتم فقط بالقضايا العلمية المرتبطة بمثل هذه الموضوعات، بل أن تهتم أيضا ببناء جاهزيتها للاستثمار وتوليد الثروة وتشغيل اليد العاملة. وهذا دور معاهد السياسات ومراكز التفكير في الجامعات التي تحدثنا عنها في مقال سابق.
إن قضية الجاهزية والروح الاستباقية في التفكير وإعداد متطلبات الأعمال المختلفة قبل انطلاقها ثقافة مهمة وعادة حميدة في حياة الأمم الطموحة. فإذا كانت موجودة لدى كثير من الأفراد والمؤسسات على مختلف مستوياتها فهذا أمر سار وواعد. لكن بناء هذه الثقافة على مستوى المجتمع، بكامل أطيافه، والتحلي بسلوكها مسؤولية اجتماعية تتطلب شراكة من الجميع. ولا شك أن بناء هذه الثقافة يبدأ من داخل الأسرة، ومن المدرسة والجامعة والبيئة المحيطة؛ كما أن ممارستها تواكب بناءها لتنتقل بعد ذلك إلى الحياة المهنية لتعزز التطوير وتفعل التنمية وتدعم استدامتها. والله ولي التوفيق.