أسواق النفط تتكيف مع المتغيرات الجديدة «2 من 2»
في الجزء الأول أشرت إلى أن ديناميكيات الطلب العالمي على النفط ومكانة النفط في مزيج الطاقة شهدت تغييرات جذرية حيث إن المخاوف بشأن تغير المناخ أعادت صياغة سياسات الطاقة أيضا. كما أن عولمة أسواق الغاز الطبيعي والانخفاض الحاد في تكلفة وتوافر الطاقة المتجددة، أدى إلى زيادة المنافسة بين هذه الموارد والنفط بصورة لم تكن متوقعة قبل بضع سنوات. لذلك من الطبيعي أن يؤدي تغير الظروف الأساسية للأسواق إلى شكل مختلف من إعادة التكيف إلى انخفاض الأسعار بصورة لم نعهدها في الدورات السابقة.
لذلك، انخفاض أسعار النفط في الآونة الأخير من المتوقع أن يكون له تأثير طفيف في نمو الطلب العالمي على النفط للفترة المتبقية من هذا العقد. حقيقة أن ضعف الطلب على النفط كان جزءا من الأسباب التي أدت إلى انهيار الأسعار منذ منتصف العام الماضي تشير إلى أن هذا الانخفاض سيساهم فقط الآن في تعزيز النمو الاقتصادي ورفع الطلب على النفط، حسب تقرير الوكالة.
على المدى المتوسط، تتوقع الوكالة أن يتباطأ نمو الطلب بشكل ملحوظ إلى 1.1 مليون برميل في اليوم سنويا على مدى السنوات الست المقبلة، مقارنة بوتيرة النمو الطبيعي التي سادت قبل الأزمة المالية الأخيرة. مع ذلك، توقع التقرير أن يكتسب نمو الطلب زخما من أدنى مستوياته الأخيرة مع التحسن البطيء للاقتصاد العالمي، وإن كان بوتيرة أبطأ مما كان متوقعا. حيث يشير التقرير الآن إلى أن الطلب سيتقدم على العرض بنسبة قد تصل إلى مليون برميل على مدى السنوات الست المقبلة، مما يؤدي إلى تشدد كبير في الأسواق مع بداية العقد المقبل.
يملي المنطق المعتاد لديناميكية الأسواق أنه كلما كان انخفاض الأسعار أعمق وأسرع كان الانتعاش أقوى؛ العكس بالعكس، كلما كان الارتفاع أسرع كان التصحيح حتميا أكثر شدة. اتجاهات الأسواق الأخيرة بالتأكيد تناسب النمط الأخير: بعد سنوات من استقرار الأسعار عند مستويات قياسية، كان لابد أن تتراجع بصورة قوية.
ولكن على أساس معطيات الأسواق الجديدة، تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يكون الانتعاش مختلفا هذه المرة، حيث أصبح المعروض من خارج دول "أوبك" أكثر مرونة لتقلبات الأسعار مما كان عليه في السابق، في حين أصبح الطلب في الوقت نفسه أقل مرونة بصورة كبيرة على الجانب السلبي. في غياب أي تعطل غير متوقع أو كبير في الإمدادات، وعدم تغير في السياسات المتعلقة بالطاقة، تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يحدث إعادة التوازن في الأسواق بصورة سريعة نسبيا ولكن سيكون بعض الشيء محدود النطاق، حيث إن الأسعار ستستقر عند مستويات أعلى من المستويات المتدنية الأخيرة ولكن أقل بكثير من المستويات العالية التي شهدتها على مدى السنوات الثلاث الماضية.
في ضوء المستجدات الحالية، من المتوقع أن يتوقف نمو المخزون النفطي الكبير الذي تجمع على مدى الأشهر القليلة الماضية بحلول منتصف عام 2015، والأسواق تبدأ بالتشدد بشكل ملحوظ، سنشهد ارتفاعا مطردا تدريجيا في الطلب على نفط "أوبك" اعتبارا من عام 2016 فصاعدا. لكون إنتاج الصخر الزيتي في أمريكا الشمالية يشكل أكبر مصدر لنمو إمدادات النفط العالمية، سيحد هذا من التقلبات الكبيرة، سواء في الاتجاه التصاعدي أو الهبوطي، التي تصاحب عادة عملية تصحيح الأسواق. الأهم هو أن انخفاض الأسعار، بغض النظر عن مدى قوة استجابة العرض الحاصلة بالفعل، لن ينجح في عرقلة القوى المحركة للأسواق أو تغيير مسار تطورها المتوقع.
سيتسبب تصحيح الأسعار في تراجع مؤقت في نمو الإمدادات في أمريكا الشمالية، لكن سوف لن يتوقف النمو نهائيا. وبحلول بداية العقد المقبل، سيمثل إنتاج النفط غير التقليدي في أمريكا الشمالية حصة أكبر في مزيج العرض مما كان متوقعا في السابق. على الرغم من تنقيح تقديرات الإنتاج إلى الأسفل، إلا أن هذه المنطقة ستستمر بقيادة نمو الإمدادات العالمية بفارق كبير بحلول عام 2020، حيث تتوقع الوكالة أن تنمو بنحو 3.0 مليون برميل في اليوم. في حين ستتضرر باقي الدول خارج "أوبك" أكثر من هبوط الأسعار وخاصة روسيا.
على الرغم من التحديات السياسية وعدم اليقين التي حددها تقرير الوكالة، إلا أن أسواق النفط العالمية من المتوقع أن تبدأ صفحة جديدة من تاريخها تمتاز بتغير ملحوظ في ديناميكية الطلب، تحولات كبيرة في تجارة النفط الخام وتوريد المنتجات، واختلاف الأدوار بشكل كبير بين "أوبك" وخارج "أوبك" في إدارة العرض. تكون هذه الصفحة مختلفة جذريا عن أي شيء كان معروفا حتى الآن.
كما هو الحال مع الإصدارات السابقة من هذا التقرير، تستمد فرضيات الأسعار(ليس التوقعات) التي تستخدم كمدخلات للنمذجة من منحنى العقود الآجلة للأسعار. حيث يفترض التقرير أن تراوح أسعار النفط في المتوسط عند 55 دولارا للبرميل في عام 2015، ترتفع تدريجيا إلى 73 دولارا للبرميل بحلول عام 2020. تشير هذه الأسعار إلى أن المتعاملين يتوقعون أن تسترد أسواق النفط بعض الشيء عافيتها مع إعادة التوازن بعد خفض الاستثمارات في المشاريع الاستخراجية. على الرغم من ذلك، ليس من المتوقع أن تعود الأسواق إلى المستويات القياسية السابقة في أي وقت قريب. حيث إنه ليس فقط الأسعار الفورية انهارت، بل حتى توقعات الأسعار في نهاية الجزء الخلفي من منحى العقود الآجلة قد خفضت بشكل ملحوظ.
فيما يخص تجارة النفط الخام والمنتجات، أشار التقرير إلى أن التحولات في ديناميكية العرض والطلب قد تبطئ من الاتجاهات المتوقعة سابقا بخصوص المصافي وأنماط التجارة، لكنها لن تسبب لهم تغييرات جذرية. ستكون النتيجة النهائية لهذه التغيرات استمرار التحولات في أسواق النفط الخام والمنتجات، ما يؤدي إلى انكماش وتفتت أسواق النفط الخام من جهة وتوسع وعولمة أسواق المنتجات من جهة أخرى.