المراجعة الداخلية في رؤية الملك
في قصر اليمامة تحدث خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ــ أيده الله ــــ بشفافية ووضوح ووضع النقاط على الحروف، ما هو المسار الذي يجب أن يعمل الجميع في اتجاهه لتحقيق النمو والتطور بكل ثبات مع التمسك بالعقيدة الصافية، والمحافظة على أصالة هذا المجتمع وثوابته. وإذا كانت مشكلتنا الاقتصادية تتمحور حول العلاقة الشائكة بين القطاعين الحكومي والخاص وهي المشكلة التي تسببت في الإدمان على النفط، فإن الملك ومع تأكيده على مسألة الاستمرار في مشاريع الاستكشاف عن النفط والغاز، إلا أنه شدد على قضيتين أساسيتين هما تنويع مصادر الدخل وتشجيع المؤسسات المتوسطة والصغيرة على النمو؛ ودعمها لتكوين قاعدة اقتصادية متينة لشريحة كبيرة من المجتمع. في هذا الجانب بالذات أشار الملك إلى أن على رجال الأعمال تقديم مبادرات واضحة في مجالات التوظيف والخدمات الاجتماعية والاقتصادية، وهذا هو جوهر المسؤولية الاجتماعية لكن أهم عبارة في كلمة خادم الحرمين الشريفين أنه وجه بمراجعة أنظمة الأجهزة الرقابية بما يكفل تعزيز اختصاصاتها والارتقاء بأدائها لمهامها ومسؤولياتها، ويسهم في القضاء على الفساد ويحفظ المال العام ويضمن محاسبة المقصرين.
لقد مرت المراجعة ـــ كعلم ــــ بالكثير من التطورات وخلال عمرها الممتد منذ الفراعنة وبابل مرورا بعصر المركنتلية وثم عصر النهضة الصناعية ونمو أسواق المال والشركات المساهمة وحداثة القرن العشرين وعصر ما بعد الحداثة ــــ مع كل هذه العصور ــــ حافظت المراجعة على وجودها وضرورتها وأنها قاعدة أساسية في نظم الرقابة ومنح الثقة بالمعلومات بشتى صورها، تطورت المراجعة لكنها حققت في كل مرحلة عمقا فكريا واضحا وأصالة فلسفية عميقة مكنتها من تبرير وجودها الاقتصادي وتبرير كل ما ينفق على تطويرها. لذلك فإن توجيه الملك نحو تطوير أنظمة الأجهزة الرقابية يسير في هذا الاتجاه ويدل على أن المملكة ستعتمد في المرحلة المقبلة على الرقابة ولأن المراجعة عنصر من عناصر الرقابة الشاملة فإن توجيهات الملك تبعث الأمل، وللحق فإنها ـــ أي المراجعة ـــ قادرة على تقديم الكثير فيما لو تم تفعليها كما يجب.
لقد عانت المراجعة الداخلية بالذات إهمالا كبيرا في شتى القطاعات الاقتصادية بالمملكة ولا نستثني هنا حتى كبار الشركات، وعلى الرغم من أن هذا المفهوم حديث نسبيا في علم المراجعة ومع قلة المتخصصين والمهنيين القادرين على تقديم ما يليق من خدمات في هذا المجال، لكن منذ أن صدرت قرارات مجلس الوزراء بإنشاء وحدات المراجعة الداخلية قبل أكثر من عشر سنوات، وما صدر بعدها من لوائح فإن التطبيق الفعال لها لم يزل بعيد المنال، وهنا يشعر المرء ـــ إذا ما ذكرت المراجعة الداخلية في أي مؤسسة حكومية ـــ إنها مجرد ورطة للجميع، وقد لا يتحرج أحدهم أن يقول بصريح العبارة إننا ورطنا أنفسنا يوم قمنا بتفعيل أعمالها، على أن هذا التفعيل لم يتجاوز تعيين مدير مراجعة بلا صلاحيات وإذا كشف الفساد أو تحدث عنه تم إعفاؤه. لقد شاركت بنفسي في تقديم عدد من الاستشارات لمؤسسات اقتصادية مهمة جدا كان مفهوم المراجعة الداخلية ضبابيا إلى حد بعيد والشعور العام بالاستياء منها يملأ أرجاء المكان وهذا على الرغم من تأكيد المراجعين المستمر أنهم شركاء في العمل، وأنهم مستشارون مؤتمنون وأن الرقابة ليس هدفا في ذاتها بل التقويم المتفق عليه هو الطريق المنشود.
من المؤسف أن تجد جامعات حكومية ــــ وهي ربة المنزل هنا ــــ تعاني الأمرين من سوء استخدام السلطة ومن الهدر في الموارد بينما لديها مراجع داخلي مهمش، بينما تسعى جاهدة إلى ضبط الهدر بلا جدوى ثم تذهب بعيدا نحو الشركات الاستشارية لمقاييس الأداء كمن يهرب من الرمضاء للنار. من المؤسف أن تجد مجلس الشورى لا يتفق على ماهية المراجعة الداخلية ودورها واستقلالها، وكل هذا يشير في مجمله إلى أن المراجعة الداخلية في المملكة لم تتجاوز مرحلة الطفل المزعج كثير الجلبة ولا يعبأ به أحد.
المراجعة الداخلية جبل من الذهب أو سفينة غارقة مليئة بالجواهر النفيسة، وعندما أتخيل هذه الصورة عنها أتذكر قول عمر بن الخطاب لمن حوله: "تمنوا ، فقال بعضهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبا فأنفقه في سبيل الله، ثم قال: تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤا، أو زبرجدا، أو جوهرا، فأنفقه في سبيل الله وأتصدق، ثم قال عمر: تمنوا، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين، قال عمر: أتمنى لو أنها مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، وحذيفة بن اليمان". وللحق فهذا هو ما يحتاج إليه كنز المراجعة الداخلية المدفون، رجال يؤمنون به ينفضون عنه غباره يخرجونه للناس، كما يجب أن تظهر محاسنها.
لقد تفاءلت كثيرا عندما سمعت كلمة الملك وتوجيهاته بمراجعة أنظمة الأجهزة الرقابية، واليوم وفي فكر الرقابة والمراجعة في العالم تقف المراجعة الداخلية ضمن خطوط الدفاع الثلاثة، ولها من الأهمية ما جعلها عنصرا من عناصر الحوكمة، وتهتم بها وتنصح بتطويرها كل منظمات العالم المتقدمة، وإذا كانت التنمية الاقتصادية هدفا أساسيا في كلمة الملك فإن الحوكمة الاقتصادية طريق ذلك وضمانه والمراجعة الداخلية ركنها الأساسي فلا مفر من تطويرها.