رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


ثقافة القياس .. مسؤولية اجتماعية

تنطلق المعرفة من ملاحظة ما خلق الله عز وجل من حولنا، ومن المحاكمة الذهنية لذلك؛ وتأتي أيضا من تجارب الحياة، ومن التفكير في الخبرات والعلاقات التي نمر بها، التي نتأثر بها ونؤثر فيها. وقد أعطانا الزمن وتعاقب الحضارات عبره والتقدم العلمي الذي يشهده هذا العصر معارف كثيرة وخبرات عديدة نستند إليها في توليد المزيد من المعرفة، وفي العمل على توظيفها والاستفادة منها. وبين هذه المعارف والخبرات أمور تعطي مراجع قياسية لكثير من قضايا الحياة، ترتبط بمستويات مختلفة تبدأ من مستوى الفرد وتصل إلى مستوى العالم بأسره.
تشمل المراجع القياسية على مستوى الإنسان مقاييس ترتبط بأمور جسده مثل ضغط الدم، ونسب مكوناته وأمور كثيرة أخرى، ما يسهم في تشخيص حالة كل إنسان وتحديد احتياجاته. وتتضمن هذه المراجع على مستوى العالم درجات الحرارة، والرطوبة، ونسب التلوث، ومعايير ثقب الأوزون، ومعطيات الاحتباس الحراري، وغير ذلك. وهناك على مستوى مجالات الحياة المختلفة مراجع قياسية أخرى كثيرة في التعليم وفي التخصصات العلمية والهندسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
وفي مسألة ارتباط المعرفة بالقياس والمراجع القياسية، هناك قول مأثور ومعبر للعالم الشهير "اللورد كلفن"، الذي عاش في القرن التاسع عشر للميلاد، الذي أسهم في المرجع القياسي الشهير لدرجة الحرارة المطلقة. يقول هذا العالم، "أن تقيس يعني أن تعرف"؛ ويقول أيضا، "إن لم تستطع قياس أمر ما، فلن تستطيع القيام بتطويره". وجوهر الأمر أن القياس يعطي معرفة محددة، وأن هذه المعرفة المحددة مطلوبة للفهم ومطلوبة للتطوير، وفتح آفاق جديدة للمزيد من المعرفة المفيدة القابلة للتوظيف وتقديم الفوائد التي يحتاجها الإنسان في شتى المجالات.
ويرتبط القياس بما هو متوافر من معلومات، وما يمكن توفيره أيضا. ولعل أبرز الموضوعات التي تعاني مشكلات في القياس، في الدول المختلفة، موضوع "التخطيط الوطني للمستقبل" الذي تقع مسؤوليته على عاتق الجميع لأنه أيضا من أجل الجميع.
تكمن مشكلات القياس، في التخطيط الوطني للمستقبل، في أربعة أمور رئيسة. أول هذه الأمور أن الموضوع يشمل مجالات عدة وقطاعات مختلفة تعطيه بعدا واسع النطاق. وثاني هذه الأمور أن الموضوع يحتاج إلى جهد جماعي يتطلب فريق عمل متجانس ومنظم يغطي كامل مجالات وقطاعات النطاق الواسع. أما ثالث الأمور فيرتبط بالبعد الزمني حيث تتغير حالة المجالات والقطاعات بشكل متواصل يتطلب قياسا دوريا يبين معالم التغير التي تمثل جزءا مهما من القياس. ويتعلق الأمر الرابع "بثقافة القياس" بين الناس التي يمكن أن تعطي البيئة المناسبة لتمكين القياس وجمع المعلومات اللازمة لتحديده.
تفرض ثقافة القياس على كل فرد مسؤولية اجتماعية تجاه استجابته وإسهامه في تقديم المعلومات التي يحتاج إليها القياس، وذلك بشكل دقيق وموثق. ويحتاج القياس في موضوع التخطيط الوطني للمستقبل إلى "إحصائيات" عديدة تعطي أرقاما دقيقة في مجالات مختلفة؛ ويحتاج أيضا إلى "دراسات مسحية" تستند إلى آراء الناس في الموضوعات المختلفة، وإلى متطلباتهم الحالية وتوجهاتهم المستقبلية.
فبين "الإحصائيات" المطلوبة، على سبيل المثال ما هو: معرفي كمستوى التأهيل التعليمي؛ وما هو اقتصادي كمستوى الاستثمار؛ وما هو إنتاجي كإجمالي الدخل القومي؛ وما هو تجاري كالصادرات والواردات؛ وما هو اجتماعي كالنمو السكاني؛ إضافة إلى مدى اقتناء واستخدام الوسائل التقنية بين الناس؛ وغير ذلك. وبين "الدراسات المسحية" المطلوبة آراء ورؤية أصحاب العلاقة حول مدى جودة مخرجات التعليم؛ ومدى جودة العناية الصحية؛ ومدى جودة الخدمات الإلكترونية الحكومية؛ وغير ذلك.
توضع نتائج الإحصائيات والدراسات المسحية عادة ضمن مؤشرات رقمية للتعبير عنها. وكثيرا ما تنسب، من خلال هذه المؤشرات، إلى عدد السكان أو إلى إجمالي الدخل القومي أو إلى مرجعيات قياسية دولية مختلفة. وكثيرا ما تجمع مجموعة من المؤشرات في مجال محدد ضمن دليل واحد، وتجمع أيضا مجموعة الأدلة في دليل عام يعبر عن مجمل النتائج. ومن أمثلة الأدلة العامة على المستوى الدولي، "دليل التنافسية الدولية الذي يضم 114 مؤشرا"، و"دليل الابتكار الدولي الذي يشمل 81 مؤشرا" وغير ذلك من أدلة دولية أخرى.
تعتمد المؤشرات والأدلة حول الدول المختلفة المعطاة في إصدارات المنظمات والمؤسسات الدولية على مصادر متعددة. وتشمل هذه المصادر، الدولة صاحبة العلاقة، إن هي قدمت المؤشرات المطلوبة؛ أو مصادر أخرى خارج الدولة صاحبة العلاقة، حيث تقوم هذه المصادر بإجراء التقديرات والدراسات التي كثيرا ما تفتقر إلى الدقة والتوثيق السليم.
ولعل بين مشكلات المؤشرات والأدلة التي تقدم دوليا حول المملكة، أن كثيرا منها يأتي من هذه المصادر بسبب عدم تقديمها من قبل المملكة. ويقول تقرير لمؤسسة "تومسون رويترز" حول البحث والابتكار في "الدول العشرين" وبينها المملكة الصادر عام 2014: "إن معظم البيانات حول المملكة تأتي من مصادر خارجية".
لا شك أن المملكة تحتاج إلى مؤشرات وأدلة وطنية دقيقة وموثقة، يجري قياسها دوريا للتعبير عن حالتها وعن تطورها، وتحديد مكامن القوة ومواطن الضعف فيها، والتخطيط لمستقبلها على أفضل وجه ممكن. ولا شك أيضا أن أفضل مصدر لمثل هذه المؤشرات والأدلة هو مؤسسات المملكة في جميع المجالات والقطاعات المختلفة. وعلى الرغم من أن هناك جهودا كبيرة تبذل في جمع المعلومات واستخراج المؤشرات، إلا أن الأمر قابل دائما للمزيد من التطوير.
يتضمن التطوير المطلوب بنية للقياس تعززها ثقافة عامة للقياس. وتحتاج بنية القياس إلى تنسيق وطني، ليس على مستوى وزارة بعينها، بل على المستوى الوطني الشامل، وهذا ما يحدث في كثير من الدول. وفي إطار هذا التنسيق، يجب أن تكون هناك "وحدة للإحصاء والقياس" في كل مؤسسة، بل في كل فرع من فروع المؤسسات، خصوصا الكبرى منها، على أن تعود تابعية هذه الوحدات، ليس إلى هذه المؤسسات، بل إلى بنية القياس الوطني الشامل التي تضع إحصائيات وقياسات الوحدات المختلفة ضمن إطار موحد جامع. ولن تستطيع بنية القياس أن تؤدي دورها على أكمل وجه ممكن دون ثقافة يجري بناؤها بين الناس تجعل كل شخص راغب ليس فقط في تقديم ما لديه من معلومات، بل في الإسهام في جمع المعلومات، وربما في اقتراح مؤشرات جديدة تحمل دلالات مفيدة لمستقبل أفضل نتطلع جميعا إليه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي