رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


منصات «الحوار» الأسرية وحياتنا العصرية

أباح لي أحد الأصدقاء عن ندمه لكونه ربى أبناءه على الصراحة والنقاش وطرح أفكارهم وآرائهم بكل حرية في كل الأوقات ولكل شأن يخصهم، إضافة إلى كونه حدد موعدا دائما بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع كمنصة حوارية يشارك فيها جميع أفراد أسرته.
قلت له ولماذا الندم؟ لماذا وقد ربيت أبناءك على خصلة حميدة جعلتهم أكثر ثقة بأنفسهم، وأكثر قدرة على احترام الآخرين وآرائهم وخياراتهم، وأكثر قدرة على التفاهم والتوافق والتعايش مع الآخرين بعيدا عن التعصب والتطرف والغلو؟ فقال لي إنه أصبح نتيجة للحوار الدائم مع أبنائه واحترام تساؤلاتهم وحرياتهم وإرادتهم وآرائهم يناقشون كل قراراته ويضعونها موضع الحوار ما أفقده الكثير من السلطة في المنزل.
وعندها ابتسمت في وجهه وقلت له هل فقدت السلطة أم التسلط؟ فابتسم هو الآخر وقال للأمانة فقدت التسلط وهو ما أحتاج إليه في بعض الأحيان لأني أريد أن أفرض آرائي وقراراتي لتسير الأمور كما أريد لأشعر بالراحة رغم علمي أن راحتي ستكون على حساب راحتهم لأني سلبت الكثير من حرياتهم أو إرادتهم أو ألزمتهم برأيي أو قراري دون قناعة.
خلصنا أنا وصديقي هذا إلى أن الأب أمام عدة خيارات، وأن الحوار مع أفراد الأسرة جله منافع وأن نجاح أفراد الأسرة بالالتزام بمبادئه ومهاراته نسبية، وكذلك جودة نتائجه ومدى احترام الوالدين لتلك النتائج خصوصا لجهة مستوى التفاهم والتوافق والتعاون على متطلبات الحياة الأسرية وتحدياتها، كذلك خلصنا إلى أن الأبناء الذين مارسوا الحوار في أسرهم أكثر قدرة على الفهم والتفاهم والتوافق والتعايش مع الآخرين مهما كانوا مخالفين لهم في المعتقد أو المنطقة أو العرق أو الثقافة. وبالتالي فإنه يجب ألا يندم على نجاح حققه وإن بدا له أن ما فعله أعاقه عن تحقيق شهواته ومن التسلط على الأبناء في كثير من الأحيان أو بعضها.
تذكرت هذا القصة مع صاحبي بشأن التحاور مع أبنائه أثناء تصفحي العدد 77 من مجلة أحوال المعرفة الصادرة عن مكتبة الملك عبد العزيز العامة في الشهر الماضي، الذي عنونت صفحته الأولى بـ "وداعا صانع الحوار" مع صورة لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ـــ رحمه الله ـــ، نعم تذكرت هذه القصة عندما وقعت عيناي على صفحة داخل المجلة بعنوان "حواراتنا تعاني من الأمية" والتي يثبت فيها مثقفون وإعلاميون وباحثون هذه الحقيقة حيث عزا بعضهم ذلك إلى عدم تربية الأطفال على الحوار في محيط الأسرة.
أعجبني قول الدكتورة نادية نصير المستشارة الأسرية والتربوية بشأن تربية الأطفال على الحوار بين أفراد الأسرة أن "رحلة خمد الصوت وعدم قدرة الأبناء على الحوار تنطلق من ظننا أن الطفل الصغير لا يعي الحوار، ولذلك ليس من الضروري إعطاؤه الفرصة للحديث أو التعبير عن آرائه أو أي موضوع حتى ولو كان يخصه شخصيا مثل اختيار لون ملابسه أو أدواته المدرسية خوفا من أن يختار شيئا غير مناسب له ليمنع بالمحصلة من الحوار مع والديه حول كثير من المواضيع".
أجزم لو قارن كل ولي أمر بين مزايا وعيوب تمكين أبنائه من الحوار الأسري بكل حرية من عدمه لاختار دون تردد التمكين بل لأتي لهم بالكتب والمراجع التي تثقفهم بمتطلبات الحوار ومبادئه وقيمه ومهاراته وفوائده التي لا تعد ولا تحصى على الفرد والأسرة والمجتمع والوطن بالمحصلة، ولتحلى بصفة الصبر والحلم على أبنائه أثناء ممارستهم الحوار معه ومع والدتهم حتى وإن لم يتقنوه بالشكل المطلوب، وذلك عندما يرى الإيجابيات في سلوكيات أبنائه وفي ثقتهم بأنفسهم ومدى وضوحهم وشفافيتهم معه ومع والدتهم، والحصانة التي يتمتعون بها ضد كل ما هو غير عقلاني وغير منطقي لا يمكن إثباته بمرجعية علمية لا بهوى، وبالتالي يكون عصيين على كل متطرف ومتعصب ومغال وداع للعنف لأنهم لا يقبلون الحق إلا عند قيام الدليل من المحاور الآخر وهو أمر غير متاح للمتطرفين والمتعصبين والمغالين.
نعم سيكونون كذلك لأن الحوار يعزز الثقة بالنفس ويحررها من مشاعر الكبت والعداء والكراهية والإقصاء كما يعزز القدرة على التواصل مع الجديد وقهر التعصب وفك الانغلاق الفكري وتجنب العنف والإرهاب والتسامح والمحبة والتراحم ونبذ الأنانية والنرجسية والازدراء والفوقية. ولقد وصف الفلاسفة الحوار بأنه بنائي علاجي فهو يبني الشخصية والثقة بالنفس ويعالج الكثير من المشاكل لكونه أفضل السبل على الإطلاق في بناء الفهم المشترك وتكوين القناعات المشتركة ورفع الصورة المشوهة عن الآخرين ومعرفة الذات وما تحمله من قيم وعلم وفكر وثقافة.
البعض يقول الحوار يُمارس ولا يُدرب وقد يكون في ذلك شيء من الصحة ولكني على يقين بأن الأسرة التي تبني منصة حوارية أسبوعية لأبنائها، فضلا عن إشاعتها لثقافة الحوار بين الأبناء ووالديهم في كل الأحيان تحتاج إلى تعزيز معرفة أبنائهم بمبادئ وقيم الحوار وآلياته وفوائده ليمارسونه سلوكا كل يوم على أسس علمية لتنمية مهاراتهم الحوارية وقيمهم الإنسانية المرتبطة بالحوار وفوائده شيئا فشيئا. وحسب علمي أن مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني أعلن عن الكثير من الكتب والدورات، كما أنه يصدر مجلة دورية لذلك، ويمكن للوالدين الاستفادة من ذلك من خلال موقع المركز بكل تأكيد.
ختاما إذا كان الحوار الأسري فيما مضى ترفا كما يعتقد البعض فإنه اليوم بات ضرورة ملحة ليتمكن الأبناء من مواجهة الحياة العصرية بفرصها ومخاطرها في عالميها المادي والافتراضي، حيث باتوا في مواجهة معرفية وفكرية مع محيطهم وخارجه نتيجة معطيات الحياة المدنية وثورة المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي